عند الحديث عن سيادة الدول فنحن نتحدث عن الاستقلال التَّام والإرادة الذَّاتيَّة في التصرف والتحكم في مطلق الشؤون الداخليَّة والخارجيَّة للدَّولة ذات السيادة، نتحدث عن امتلاك السُّلطة الكاملة والسيادة الشاملة على إقليم الدَّولة برًّا وبحرًا وجوًّا، وهكذا، في وقت يلاحظ فيه المرء من الناحية العمليَّة والواقعيَّة أنَّ السيادة كما سبق الإشارة إلى مضمونها لم تَعُدْ سوى قضيَّة شكليَّة في الدساتير والمضامين الوطنيَّة، بَيْنَما تصارع الدول ضربات العولمة وموجة الذَّكاء الاصطناعي والأدوات القائمة على الوسائط الإلكترونيَّة للمحافظة على مضمون سيادتها.
حيثُ برز نمط جديد من المُجتمعات المتداخلة قائمًا على التشكل ونوع من الإدارة يحملان شيئًا من الشَّبه بالوضع الَّذي كان سائدًا قَبل أن يصبح نظام الدول ذا طابع رسمي بمعاهدة سلام ويستفاليا «فالاتصالات العابرة للقوميَّة عَبْرَ الحدود السياسيَّة كانت نماذج مألوفة في عهد الإقِطاع، ولكنَّها صارت مقيَّدة على نَحْوٍ متزايد بنشوء الدول أو الأُمم المركزيَّة»(1 ) حيثُ سيتراجع مع الوقت نوعًا ما عنصر مُهمٌّ من عناصرها المكوّنة لبنائها القانوني والسياسي، وهو عنصر السيادة الوطنيَّة بطريقة أو بأخرى، باتِّجاه ما يُمكِن أن يطلق عليه في العقود القادمة بالدَّولة الرقميَّة أو الافتراضيَّة والمواطن العالمي.
صحيح أنَّ الدول ذات السيادة ستستمر بتأدية دَوْر كبير في السياسة العالميَّة لزمن ليس بالقصير، ولكن ذلك لن يستمر إلى ما لا نهاية، بل سيتعيَّن عليها مع الوقت التنازل عن بعض من سيادتها واستقلالها الكامل أمام ضربات العولمة والذَّكاء الاصطناعي، وستكُونُ أقلَّ عزلة وانطواءً على نفسها، وأكثر مساميَّة، وسوف يتعيَّن عليها أن تتقاسم مسرح السيادة الوطنيَّة مع مواطنيها، بل ومع أفراد وأُسر دوليَّة من الخارج.
وعندما نقول مع مواطنيها فنحن نعني ذلك بشكلٍ سياسي وصريح، حيثُ أظهرت العديد من الدراسات أنَّ المواطن اليوم أصبح جزءًا لا يتجزأ من المؤثرين على سيادة الدَّولة واستقلالها، في وقت كانت فيه سيادة الدول شأنًا من شؤون السياسة وأصحاب السُّلطة والقيادات السياسيَّة، بَيْنَما اليوم أصبح الأمر واضحًا أنَّ المواطنين يؤثِّرون بشكلٍ مباشر وصريح في الشأن السياسي وسيادة دولهم، ما يعني أنَّ مبدأ سيادة الدول واستقلالها يمرُّ اليوم بمفترق طُرق رئيس في النظام العالمي الجديد أو الرَّقمي، أبسط ما يُمكِن القول عنه، إنَّه يَسير نَحْوَ التراجع والانهيار والتفتُّت أمام ضربات العولمة الموجعة بمساندة ثورة المعلومات والمُجتمعات الرقميَّة.
باختصار، فإنَّ هذه التَّحوُّلات تُشير إلى إبطال مفعول الدَّولة المركزيَّة الحديثة الَّتي كانت تسيطر على السياسة العالميَّة منذ القرن الـ(16) وحتَّى منتصف القرن الـ(20) تقريبًا، صحيح أنَّنا «لا نزال في مرحلة مبكرة من ثورة المعلومات الحاليَّة، وتأثيراتها على الاقتصاد والسياسة متفاوتة»(2 )
إلَّا أنَّ القياسات التاريخيَّة السابقة تساعدنا على فَهْم بعض القوى الَّتي ستشكِّل السياسة العالميَّة في القرن الحادي والعشرين «حيثُ تغيَّرت الاقتصادات وشبكات المعلومات بسرعة أكثر بكثير من سرعة تغيُّر الحكومات، وقد تنامت أحجامها بأسرع من تنامي السيادة والسُّلطة» ( 3) فالتَّحوُّل القياسي الرئيس وأعني الثورة الصناعيَّة إلى ثورة المعلومات والذَّكاء الاصطناعي «هو الَّذي أدَّى إلى تغيير طبيعة الدولة القوميَّة. فما كان يُعرف بالسيادة الوطنيَّة سيتحول إلى مفهوم سيادة الشَّعب أو سيادة المواطن، فهناك شيء آخر ينشأ بدلًا من القوميَّة» (4 )
لذا فإنَّ من أبرز نتائج هذا التوَجُّه القائم على التشكُّل منذ عقود: تراجع ما يُسمَّى بسيادة الدول على أراضيها وتفتُّت ما يُطلق عليه بمبدأ السيادة الوطنيَّة باتِّجاه دول افتراضيَّة وسيادة جزئيَّة تتحكم بها الثورة المعلوماتيَّة، والتجمعات الرقميَّة أو شبكات التواصل الاجتماعي كتويتر (أكس حاليًّا) والواتساب والفيس بوك، وكذلك الشركات العابرة للقارَّات، كما ستكُونُ السيادة القادمة ليس للجغرافيا السياسيَّة بقدر ما سيكُونُ ذلك للجغرافيا الافتراضيَّة، وستتحول الأنظمة السياسيَّة القادمة إلى حكومات إلكترونيَّة والأفراد إلى مؤثِّرين فاعلين في سيادة تلك الأنظمة، سواء كان السيادة الداخليَّة أو الخارجيَّة.
ــــــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ جوزيف. س.ناي الأصغر ، مفارقة القوة الأميركيَّة، تعريب د. محمد توفيق، العبيكان، الرياض، ط ع 1 / 2003م
2 ـ إيريك برينجولفسون وبيان كهين، فهم الاقتصاد الرقمي، مطبعة معهد ميتشغان للتكنولوجيا، كمبريدج ماساشوسيتس، بدون ط/ 2000
3 ـ جوزيف.س.ناي الأصغر، مفارقة القوة الأميركيَّة، تعريب د. محمد توفيق، العبيكان، الرياض، ط ع 1 / 2003م
4 ـ مجموعة مؤلفين، هكذا يصنع المستقبل، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيَّة، ط1/2001م، كينيشي اوماي – طبيعة الدولة في القرن الحادي والعشرين
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @