أن يتضمن تقرير التنمية في العالم 2025 الصادر عن البنك الدولي أول تحليل شامل لمشهد المعايير العالميَّة، فإنَّ ذلك يعكس الدَّوْر المُهمَّ الَّذي باتتْ تقوم به هذه المعايير في الاقتصاد العالمي، حيثُ إنَّ المعايير الدوليَّة هي مجموعة من القواعد والمواصفات الفنيَّة والتنظيميَّة المتَّفق عليها عالميًّا، والَّتي تُستخدم لضبط جودة المنتجات والخدمات، وتسهيل التجارة، وضمان التوافق بَيْنَ التقنيَّات والأنظمة في مختلف القِطاعات.
ويقدِّم التقرير رؤية واضحة لهذه المعايير الَّتي كانت بمثابة البنية الخفيَّة الَّتي تحكم حركة الاقتصاد العالمي والَّتي تشمل ـ على سبيل المثال ـ بطاقات الوصف الغذائي وإجراءات السلامة والجودة الصناعيَّة والمواصفات التقنيَّة لشبكات الاتصالات الحديثة وغيرها، وأصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من البنية الأساسيَّة الاقتصاديَّة، كما أنَّها لا تقلُّ شأنًا عن الطرق والموانئ وشبكات الطاقة. وتكمن أهميَّتها في أنَّها تُشكِّل اللُّغة المشتركة الَّتي تربط الأسواق، وتسهِّل التجارة، وتمكِّن الابتكار، وتحدد شروط المنافسة. وبما أنَّ الدول الغنيَّة والشركات متعدِّدة الجنسيَّات هي الَّتي تضع أغلب هذه المعايير، فهي تحصد فوائد ضخمة من قدرتها على فرض مواصفات عالميَّة تتوافق مع قدراتها الصناعيَّة والتكنولوجيَّة، ممَّا يمنحها أفضليَّة تنافسيَّة واستثماريَّة.
أمَّا البلدان النامية فيحذِّر التقرير من بقائها على هامش عمليَّة كتابة القواعد الَّتي ستحدد شكل الاقتصاد العالمي لعقود قادمة. ولتفادي ذلك، يؤكد التقرير ضرورة أن تتبنى هذه الدول سياسات استباقيَّة، من خلال: المشاركة النشطة في الهيئات الدوليَّة لوضع المعايير، وتطوير بنيتها الأساسيَّة والتقنيَّة لتمكين خبرائها من الإسهام الفعلي، وتعزيز التشريعات الوطنيَّة الَّتي تواكب التطور السريع في معايير التكنولوجيا والتجارة. كما يشدِّد على أهميَّة الاستثمار في القدرات المؤسَّسيَّة والبشريَّة، وتطوير صناعات قادرة على تطبيق المعايير الحديثة، بما يتيح لها التَّحوُّل من مجرَّد متلقٍّ لها إلى طرف مشارك في صياغتها.
كذلك يبرز التقرير أنَّ المعايير الحديثة أصبحت اليوم شرطًا أساسيًّا لتحقيقِ الرَّخاء الاقتصادي، فهي الَّتي تسمح باندماج الدول في سلاسل القِيمة العالميَّة، وتسهِّل التبادل التجاري، وترفع ثقة المستثمرين، وتدعم الابتكار. وبالتَّالي فإنَّ قدرة البلدان النامية على اللحاق بهذا النظام الجديد وفهمه والتأثير فيه ستحدّد إلى حدٍّ كبير موقعها في الاقتصاد العالمي ومستقبل تنميتها.
هيثم العايدي
كاتب صحفي مصري