لَوْحاتٌ كثيرةٌ قاتمةُ السَّوادِ تَوَزَّعَتْ أَيَّامَ العراقيين بعدَ احتلالِه من قِبَلِ القوَّاتِ الأَميركيَّة في العامِ 2003، واحدةٌ من تلك اللَّوْحاتِ شديدةِ القسوةِ خَبَرُ اغتيالِ الأُستاذِ الصَّحفيِّ الكبيرِ نصرالله الداوودي، جاء الخبرُ وسطَ كميَّاتٍ كبيرةٍ من الدِّماءِ الَّتي تُغَطِّي وجهَ العراقِ في كُلِّ ساعةٍ من العامِ 2004.
تَمَّ اختطافُ الرجلِ الوديعِ والمِهنيِّ الخَلوقِ وسطَ بغداد، وبعدَه عُثِرَ على جثته مقتولًا.
المُشْكلةُ في أيَّامِ الاحتلالِ أنَّ خبرًا يَدْهَمُ حياتَك، لِيَتْبَعَهُ خبرٌ آخر. ومنذُ أن اغتالت عصاباتُ الاحتلالِ والجريمةِ الدكتورَ محمد الراوي، رئيسَ جامعةِ بغدادَ ونقيبَ الأطباءِ العراقيين، في عيادته في حيِّ المنصور ببغداد بعد احتلالها بأسابيع، أخذتِ الأسماءُ الكبيرةُ تتساقط، كبارُ الطيَّارينَ العراقيين وكبارُ العلماءِ وكبارُ الضبَّاط. ووسطَ هذا الطَّوْافِ الدامي جاءنا خَبَرُ اغتيالِ أحدِ أَلْمَعِ الصحفيين والأقربِ إلى قلوبِ جميعِ الصحفيين والإعلاميين.
أنا شخصيًّا لم أعملْ مع (أبو شيلان)، كما أنَّني لم أعملْ منذ منتصفِ الثمانينيَّات في أيِّ مؤسَّسةٍ إعلاميَّة عراقيَّة، لكنَّ جميعَ الَّذين عملوا معه دوَّنوا سِيرتَهُ المهنيَّة وقالوا الكثيرَ عن مهنيَّتِه وكَرَمِه وخُلُقِه الرَّفيع. ولأنَّ صداقةً عميقةً ربطتني به لسنواتٍ طويلة، فإنَّ تأكيدَ ما قِيل عنه يأتي من الجميع بشهاداتٍ موثَّقة.
لم يَبْرَحْ بغداد، كان مُطْمَئِنًّا حالَ الكثيرين الَّذين قتلتْهم الطمأنينةُ الزائفة. ما أَقْساها تلك اللحظاتُ الَّتي تَنْقُلُ المرءَ من طمأنينةٍ تامَّةٍ إلى عبثٍ غامض، يُجهزُ عددٌ من المُجرمِين المأجورين على شخصٍ ثم يقتادونه تحت فوَّهاتِ السلاح، ولا يتردَّدون في تمزيقِ جسده بطلقاتٍ ناريَّة تنفيذًا لأوامرِ مُجرمِين يجلسون خلف مكاتبَ فارهة، لكن فوقَ الزجاجِ تسيلُ الدماءُ البريئة.
وسطَ الفوضى والقتلِ والاختطافِ لا يشعرُ بالطمأنينةِ المطلقةِ إلَّا الكفوءُ والمُخلِصُ ونظيفُ اليدِ والفكر. الراحلُ نصرالله الداوودي وقَبْلَهُ الدكتورُ محمد الراوي، وما بَعْدَ وما بَيْنَ سقوطِ الاثنين، تطولُ القائمةُ الَّتي ـ وللأسفِ الشديدِ ـ لم تتوقَّف. لو كانوا قد أساؤوا لِأَحَدٍ لَما أحاطتْهم تلك الطمأنينةُ الزائفةُ السوداء، الَّتي منعتْهم من مغادرةِ البلادِ إلى أيِّ بلادٍ أُخرى في أرضِ الله الواسعة.
هذه الطمأنينةُ السوداءُ تسبَّبت بالتهامِ الكثيرِ من الكفاءاتِ العراقيَّة الَّتي تمَّ استهدافُها مباشرةً بعد الاحتلالِ الأميركيِّ للبلاد.
بعد الرَّاحلِ نصرالله الداوودي اغتالوا نقيبَ الصحفيين العراقيين الأستاذَ شهاب التميمي، وسقط الكثيرون قتلى بعد تعرُّضهم للاختطافِ والتعذيب، وتم تغييـبُ الكثيرِ من الأصواتِ والأقلامِ والعلماءِ والكفاءات.
بهذه المناسبة يثير اهتمام الزميلِ الأستاذِ عرفان الداوودي، شقيقِ الراحلِ نصرالله، بقضيَّة شقيقِه ودأبُه المتواصل لتذكيرِ الزملاء بالكتابةِ عن الراحل، يثير الإعجابَ حقًّا. وهذا الجهدُ يُوَثِّقُ ويُؤَرِّخُ لحقبةٍ دامية سوداء عاشها العراقُ منذ العامِ 2003 وحتَّى اللَّحظة.
يُدركُ عرفان أنَّه لا يُوثِّقُ للتذكيرِ بالراحلِ فقط، وإنَّما هذه الجهودُ تذهب أبعدَ من ذلك، فكُلُّ زميلٍ يكتب يَرْصُدُ ظاهرةَ قتلِ وتغييبِ الكفاءاتِ العراقيَّة من زاوية قد لا يراها الكثيرون.
دعواتُ الكتابةِ عن الأسماءِ البارزةِ والظاهرةِ المخيفةِ بكُلِّ تفاصيلِها مهمَّةٌ وطنيَّة كبيرة. شكرًا لكُلِّ مَن يضطلعُ بها.
وليد الزبيدي
كاتب عراقي