الأحد 14 ديسمبر 2025 م - 23 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الاقتصاد بين اختبار التحول ورهان الصناعة المتقدمة

الأحد - 14 ديسمبر 2025 04:11 م

رأي الوطن

10


يمرُّ الاقتصاد الوطني بمرحلة إعادة تشكُّل عميقة، تنتقل فيها الحكومة من إدارة الفوائض إلى إدارة الخيارات، ومن الاعتماد على دَوْرة الطَّاقة إلى بناء قاعدة إنتاج قادرة على الصمود أمام تقلُّبات الأسواق.. فخلال السنوات الأخيرة، ظهرت ملامح هذا التَّحوُّل في طريقة قراءة الأرقام، وفي طبيعة القرارات، وفي انتقال الخِطاب الاقتصادي من التركيز على الاستقرار المالي إلى الحديث عن الهيكل الإنتاجي والقدرة التنافسيَّة. ولم تَعُدِ المؤشِّرات الكليَّة تُقرأ بمعزل عن مضمونها، حيثُ أصبح السؤال الأهم يَدُور حَوْلَ مصدر النُّمو، وطبيعته، ومدى استدامته، وهنا تتقاطع إشارتان كاشفتان لمسار واحد، الأولى هي إشادة دوليَّة بتقدُّم سلطنة عُمان في توطين الصناعات المتقدمة، وأرقام ميزان تجاري تعكس تراجعًا في عوائد النفط مقابل صعود متدرِّج للصَّادرات غير النفطيَّة. فهذا التزامن يحمل دلالة اقتصاديَّة تتجاوز المصادفة، ويكشف عن لحظة مفصليَّة يُعاد فيها ترتيب الأولويَّات، ويجري فيها اختبار قدرة الاقتصاد على تحويل الرؤية إلى أدوات إنتاج، والسِّياسات إلى مصانع، والطُّموح إلى أرقام تكتب مستقبلًا أقلَّ هشاشة وأكثر قدرة على المناورة داخل اقتصاد عالمي شديد التقلب.

يتجسد هذا التَّحوُّل بوضوح عند النَّظر إلى ما يحدُث داخل بنية الاقتصاد نفسها، حيثُ تعكس إشادة منظَّمة الأُمم المُتَّحدة للتنمية الصناعيَّة بتقدُّم السَّلطنة في توطين الصِّناعات ذات التقنيَّات المتقدمة، انتقالًا من اقتصاد يستقبل الاستثمارات إلى اقتصاد يُعِيد توظيفها داخل منظومة إنتاج محليَّة.. فهذا التقييم لا ينحاز للأرقام المجرَّدة أو لعدد المشروعات، وإنَّما يقيس قدرة الدَّولة على بناء سلاسل قِيمة مترابطة قادرة على المنافسة والاستمرار. واللافت أنَّ هذا التقدُّم تحقَّق في قِطاعات عالية الكلفة وشديدة المنافسة مثل البولي سيليكون والخلايا والألواح الشمسيَّة وتقنيَّات الطَّاقة الجديدة، وهو ما يُشير إلى تحوُّل في فلسفة السِّياسة الصناعيَّة نَحْوَ أنشطة ذات قِيمة مضافة أعلى، وتأثير أعمق على الاقتصاد الكُلِّي، وهذا المسار يؤكِّد أنَّ التنويع الاقتصادي أضحى مرتبطًا بتعدُّد القِطاعات وعُمقها وقدرتها على خلق تراكم صناعي ومعرفي يربط الموارد بالموقع والبنية التشريعيَّة ضمن منظومة إنتاج متكاملة وأكثر قدرة على الصمود.

وتزداد أهميَّة هذا التَّحوُّل الصِّناعي عند ربطه بأرقام الميزان التِّجاري، الَّتي تكشف عن مسار اقتصادي يتغيَّر تحت الضَّغط، فقد سجَّل فائض الميزان التِّجاري حتَّى نهاية سبتمبر 2025 نَحْوَ (3) مليارات و(885) مليون ريال عُماني، مقارنةً بفائض بلغ (6) مليارات و(743) مليون ريال خلال الفترة ذاتها من عام 2024، بانخفاض نسبته (42) بالمئة. ويرتبط التراجع مباشرة بانخفاض صادرات النفط والغاز بنسبة (16.5) بالمئة لِتصلَ إلى (10) مليارات و(913) مليون ريال، مقابل (13) مليارًا و(71) مليون ريال في العام السابق، في المقابل سجَّلت الصَّادرات غير النفطيَّة نُموًّا بنسبة (10.3) بالمئة لِتبلغَ (5) مليارات ومليون ريال عُماني، مقارنةً بـ(4) مليارات و(534) مليون ريال خلال الفترة نفسها من عام 2024، ما يكشف أنَّ مصادر الدَّخل البديلة بدأت تتحرك في الاتِّجاه الصَّحيح، في وقتٍ ارتفعتْ فيه الواردات بنسبة (9.3) بالمئة إلى (13) مليارًا و(297) مليون ريال، ما يفتح مساحة واسعة أمام الصِّناعة المتقدِّمة لتقليصِ فجوة الاستيراد عَبْرَ الإحلال المحلِّي. وهنا تتحوَّل الصِّناعات ذات القِيمة المضافة العالية من خيار تنويعي إلى أداة توازن فعلي، قادرة على تخفيف أثَر تذبذب أسواق الطَّاقة، وبناء قاعدة تصديريَّة أكثر استقرارًا ترتبط بالإنتاج والتقنيَّة لا بِدَوْرة سعريَّة متقلِّبة.

إنَّ ما تشهده السَّلطنة اليوم يتجاوز حدود تحسين المؤشِّرات أو امتصاص الصَّدمات الظرفيَّة؛ لِيعكسَ إعادة صياغة واعية لِدَوْر الاقتصاد الوطني داخل الإقليم والعالم، وتوطين الصِّناعات المتقدمة، من البولي سيليكون إلى الخلايا والألواح الشمسيَّة، ومن توربينات الرِّياح إلى تقنيَّات الهيدروجين الأخضر، يجسِّد انتقالًا من اقتصاد يعتمد على تصدير الموارد إلى اقتصاد يصدِّر المعرفة والمنتج الصِّناعي. وهو ما يمنح السَّلطنة موقعًا أكثر تماسكًا داخل سلاسل التَّوريد الإقليميَّة، ويُعزِّز قدرتها على التَّفاعل مع عالم تتسارع فيه التَّحوُّلات التكنولوجيَّة وتحتدم فيه المنافسة على القِيمة المضافة، والرِّهان هنا لم يَعُدْ على وفرة المورد، وإنَّما على كفاءة الإدارة، وجودة التَّشغيل، وعُمق المحتوى المحلِّي، وهي عناصر تُشكِّل جوهر «الاستراتيجيَّة الصناعيَّة 2040» ورؤية «عُمان 2040». ومع ارتباط المسار الصِّناعي بأرقام الميزان التِّجاري، تتأكد حقيقة أنَّ الصِّناعة المتقدمة أضحتْ إحدى أدوات السِّيادة الاقتصاديَّة، وقاعدة أساسيَّة لبناء نُموٍّ أكثر استقرارًا، وقدرة أعلى على المناورة، واقتصاد أقلّ عرضة للاهتزاز أمام تقلُّبات الأسواق العالميَّة.