ينطلق تناولنا لهذا الموضوع من فرضيَّة أساسيَّة مفادها أنَّ أغلب المُشْكلات الاقتصاديَّة الَّتي يعانيها المُجتمع، والَّتي تترك أثرًا مباشرًا على الشَّباب الباحثين عن عمل أو المسرَّحِين من وظائفهم أو روَّاد الأعمال المبتدئين، وكذلك على المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، إنَّما تعود بالدرجة الأولى إلى تدنِّي مستوى الإدارة الماليَّة لدى الأفراد والمنشآت، حيثُ أدَّى هذا القصور إلى اتساع دائرة الظواهر الاقتصاديَّة الضارَّة الَّتي باتتْ تُلقي بظلالها على المنظومة الاقتصاديَّة بِرُمَّتها، بدءًا من السلوك الاستهلاكي غير المتوازن في ضبط الاحتياجات، مرورًا بحالات التعثر في مشاريع الشَّباب، ووصولًا إلى حالات الإفلاس الَّتي تصيب عددًا من المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة. وفي معظم هذه الحالات، يُمكِن ردُّ الأسباب إلى ضعف الوعي بمبادئ الإدارة الماليَّة وتراجع مستوى الترويج المستدام للمشاريع، وهو أمر يرتبط مباشرة بالوعي الجمعي للمُجتمع بمفهوم الإدارة الاحترافيَّة للمشاريع الاقتصاديَّة.
وفي الوقت الَّذي تتجه فيه أصابع الاتهام إلى قِطاع التعليم من حيثُ غياب التأسيس الصحيح لمفهوم الإدارة الماليَّة، وإدارة مشاريع الشَّباب في بيئات التعليم والتعلم، في ظل غياب التأطير المنهجي والفلسفي والتربوي للإدارة الماليَّة وإدارة المشاريع الاحترافيَّة في المناهج الدراسيَّة أو إلى وجود قصور في بناء منهجيَّات واضحة ومسارات دقيقة تغرس المفاهيم الاقتصاديَّة والماليَّة في واقع حياة الطالب، ذلك أنَّ بناء الثقافة الماليَّة وتعزيز مفهوم الإدارة الرشيدة والحكيمة للمال، وترسيخ الوعي المالي منذ المراحل الأولى في حياة النشء، يبدأ بامتلاك الطالب للمهارات والاستعدادات والقدرات المؤثِّرة في صناعة سلوكه الاقتصادي. وهذا الأمر ينبغي أن يتأصل في ثقافة التعليم والتعلم وبيئة المدرسة والصف الدراسي لضمان إنتاج متعلم قادر على الاندماج اقتصاديًّا بالشَّكل الصحيح.
ولا يكفي في هذا الجانب أن تدرج المفاهيم الاقتصاديَّة ومفاهيم المال والإدارة الاحترافيَّة للمشاريع ضمن المناهج الدراسيَّة أو عبر إيجاد مساقات تدريسيَّة في التعليم المدرسي تتدرج مع الطالب في مختلف المراحل؛ بل إنَّ الحاجة تفرض إعادة النظر في طريقة تدريس هذه المفاهيم، وفي الأدوات والممكنات التربويَّة والاقتصاديَّة الَّتي تُسهم في بناء إدارة ماليَّة كفؤة، مع ما يتطلبه ذلك من توفير بيئات تعليم وتعلُّم نموذجيَّة يتعرض فيها الطالب لمواقف محاكاة للواقع الاقتصادي، من خلال إدارة مشاريع ذاتيَّة على مستوى الأسرة أو المدرسة أو الجامعة، أو عَبْرَ شراكات حقيقيَّة مع الشركات والمؤسَّسات الَّتي يفترض أن تتبنى خططًا مشتركة مع مؤسَّسات التعليم لبناء فلسفة الإدارة الماليَّة وتعزيز الاحترافيَّة في إدارة المشاريع.
كما أنَّ تأصيل مهارات التسويق الذَّاتي والإدارة الإلكترونيَّة والدعاية والإعلان وتعظيم الاستفادة من المنصَّات التواصليَّة وغيرها من الفرص التسويقيَّة، تُمثِّل عناصر أساسيَّة يَجِبُ إكسابها الطلبة ضمن إطار تعليمي متكامل، فهذه المهارات ليست مجرَّد معارف إضافيَّة، بل أدوات نوعيَّة منتِجة تحتاج إلى التزام أخلاقي وإلى تجديد وتحديث مستمرين، الأمر الَّذي يلقي على عاتق مؤسَّسات التعليم مسؤوليَّة إعادة رسم ملامح بناء المشروع الاقتصادي والمالي وإدارته، وإدراجها في محتوى الخطَّة الدراسيَّة والبرامج التعليميَّة، وفْقَ استراتيجيَّات واضحة ومنهجيَّات تفاعليَّة متدرجة تتجه نَحْوَ تأطيرها في مناهج التعليم وأساليب التعلم وأنماط التدريس وثقافة البيئة المدرسيَّة والصفيَّة.
عليه، فإنَّ خيار التعليم في دعم المُجتمع اقتصاديًّا مرهون بقدرته على إنتاج «مواطن المرحلة»؛ وهو المواطن الَّذي يمتلك أبجديَّات الاقتصاد ومفاهيمه، وأدوات بناء المشروع وإدارته، ويستطيع ضبط سلوكه الاستهلاكي وثقافته الشرائيَّة، وإدارة موارده الذَّاتيَّة وخبراته، والتسويق لمهاراته، وترقية سلوك الادخار لدَيْه. وتحقيق ذلك على أرض الواقع بحاجة إلى منهجيَّات واضحة، وأدوات تعليميَّة، ومحكَّات تطبيقيَّة في واقع الحياة اليوميَّة.
ومن هنا، فإنَّ قراءة هذه المعطيات تدفعنا إلى التأكيد على الحاجة الملحَّة إلى بناء المواطن اقتصاديًّا عَبْرَ مساريْنِ رئيسَيْنِ، هما:
المسار الأول يتمثل في تمكين المواطن من إدارة موارده وتوظيف قدراته والاستفادة من مختلف المعطيات الاقتصاديَّة، بما في ذلك الحوافز والدعم والمنح الاستثماريَّة المقدمة له، وذلك من خلال تعليمه كيفيَّة استثمارها وتوظيفها بالشكل الصحيح لبناء مشروع اقتصادي مستدام قادر على زيادة دخله والعوائد المتحققة له، وتحقيق هذا الهدف يحتاج إلى دور أعمق وأكثر تنظيمًا من قِبل مؤسَّسات الريادة والشركات والجهات المعنيَّة بالتوعية الاقتصاديَّة، لتعزيز وعي المواطن بالإدارة الماليَّة، ورفع مستوى نضجه في التعامل مع الفرص الاستثماريَّة. ذلك أنَّ الكثير من التحدِّيات ـ الَّتي أشرنا إلى بعضها ـ والناتجة عن إخفاق المشاريع الاقتصاديَّة أو توقفها عند مستوى معيَّن دون القدرة على التطور، تعود إلى جملة من الأسباب، أهمها تدنِّي مستوى الوعي المالي لدى الشَّباب أصحاب المبادرات أو الراغبين في دخول عالم الاقتصاد، أو أولئك المهتمين بالاقتصاد الرقمي والتسويق الإلكتروني. وهذا يعني ضرورة وجود مؤسَّسات اقتصاديَّة داعمة للمواطن، تأخذ بيده وتسهل وصوله إليها، وتفعيل دَوْر الجمعيَّات الاقتصاديَّة في نشر الوعي الاقتصادي الأُسري، بما يسهم في الحدِّ من الممارسات الماليَّة الشائعة ويزيد من فرص نجاح المشاريع.
أمَّا المسار الآخر فيرتبط بالسلوك الاقتصادي نفسه، وبمستوى الوعي بالعمليَّات الاقتصاديَّة والشروط والقوانين الَّتي تحكم هذا المسار، فمثلًا في ظل طبيعة الإنسان العُماني، فهناك الكثير من المعاملات الاقتصاديَّة تتأثر بسيطرة العاطفة على قرارات الأفراد، أو بسبب جهل البعض بالقوانين الَّتي تضبط العلاقات الماليَّة. وهذا يجعل المواطن عُرضة للتنازلات غير المحسوبة أو الالتزامات غير المدروسة، خصوصًا في ظل سهولة تملُّص بعض الأطراف من مسؤوليَّاتهم القانونيَّة عند غياب الأدلَّة. ويظهر ذلك في التساهل في كتابة الديون، وعدم الاهتمام بعقود الإيجارات، وعدم متابعة العمليَّات البنكيَّة الداخلة والخارجة، إضافة إلى الانسياق وراء المحافظ الوهميَّة أو الشركات الترويجيَّة والتسويقيَّة عَبْرَ الإنترنت دون أيِّ معرفة حقيقيَّة بها. كما نجد الكثير من المواطنين يتعاملون مع التسويق الإلكتروني والتسوق عَبْرَ الإنترنت دون وجود ضمانات مصرفيَّة، الأمر الَّذي يجعلهم عرضة للنَّصب والاحتيال والجرائم الماليَّة الإلكترونيَّة.
بناءً على ذلك، فإنَّ العمل الوطني يَجِبُ أن يتجه اليوم وبقوَّة نَحْوَ إعادة بناء المواطن ماليًّا، عَبْرَ مسار متكامل يشمل التمكين الاقتصادي، والدَّعم النفْسي والفكري، والتعليم والتدريب، وكذلك توعية المواطن بالممارسات السلبيَّة الاقتصاديَّة ومخاطرها وتأثيراتها على حياته الأُسريَّة والاجتماعيَّة وممتلكاته وموارده، بما من شأنه ضمان توفير حماية اقتصاديَّة للمواطن، وحفظ حقوقه واستثماراته وأصوله، ومنع تعرُّضه للإخفاقات الناتجة عن سوء الإدارة أو ضعف تشخيص واقع السوق أو نقص معايير الجودة والمنافسة العالميَّة في المنتجات والخدمات.
كما يقتضي ذلك تصحيح الممارسات المتعلقة بالبيروقراطيَّة وتعقيد الإجراءات، وتعزيز تشريعات منع الاحتكار، وتصحيح مسار الإفلاس، وتبنِّي سياسات اقتصاديَّة أكثر نضجًا تدعم ثقافة الإنتاجيَّة وترشيد الاستهلاك وبناء فِقه المواطنة الاقتصاديَّة الَّتي تبدأ مع الطفل وعَبْرَ ثقافة الادخار، والاستفادة من النموذج الوطني الَّذي شكله أبناء ولاية نزوى «سوق نزوى» في ربط الأبناء بالحياة الاقتصاديَّة والاستثماريَّة والبيع والشراء، كما يتطلب الأمر التأكيد عَبْرَ مختلف المنصَّات القانونيَّة والإعلاميَّة والتعليميَّة والتوعويَّة على توظيف الفرص الاقتصاديَّة وإعادة إنتاجها في حياة المواطن لزيادة فرص الادخار والاستثمار، وفي الوقت نفسه تعزيز القِيَم الاقتصاديَّة القائمة على قواعد الشرع وتعاليم الإسلام الَّتي تؤكد على كتابة الدَّيْن وحفظ الحقوق وتحقيق التوازن في السلوك المالي. وفي المقابل تأتي أهميَّة تأصيل الإدارة الماليَّة في حياة المواطن وتعظيم أثرها في بناء مشروعه الاقتصادي والاستثماري عَبْرَ إعادة مسار تدريس الثقافة الاقتصاديَّة والاستهلاكيَّة والاستثماريَّة والإدارة الماليَّة في المدارس والجامعات، وتعزيز قِيَم بناء المشروع وإدارته وقِيَم الادخار وإدارة البيع والشراء، بما يهيئ الطالب والمواطن لواقع اقتصادي متغير.
أخيرًا، تبقى التساؤلات المطروحة: كيف يُمكِن تعزيز الحماية الاقتصاديَّة للمواطن في مواجهة تداعيات الإفلاس وتعثر المشاريع، وزيادة الاحتكار، وعدم التفرغ لإدارة المشروع، وارتفاع الديون؟ وإلى أيِّ مدى يُمكِن لحوكمة هذه المسارات عَبْرَ رفع سقف الوعي المالي للمواطن، وتزويده بالأدوات والإجراءات والقرارات الَّتي تمكِّنه من فَهْم المعطيات في السوق المحلِّي والعالمي، أن تحميه من التقلبات الاقتصاديَّة والماليَّة المفاجئة؟ وهل سيشهد المستقبل القريب جهودًا وطنيَّة منظَّمة لإعادة قراءة التشريعات الاقتصاديَّة المتعلقة بالإفلاس والاحتكار والاستثمار الأجنبي وغيرها من القوانين ذات الصِّلة، بما يُعزِّز الوعي الاقتصادي ويحمي المواطن من المخاطر الَّتي تهدِّد استقراره المالي؟
د.رجب بن علي العويسي