الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 م - 25 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

في الحدث : ماذا يعني تعرض الجنائية الدولية لضغوط القوى الكبرى؟

في الحدث : ماذا يعني تعرض الجنائية الدولية لضغوط القوى الكبرى؟
السبت - 13 ديسمبر 2025 09:00 ص

طارق أشقر

40


جاء تصريح القاضية توموكو أكاني رئيسة المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة لعددٍ من وكالات الأنباء العالميَّة صادمًا للمهتمين بشؤون العدالة الأُمميَّة، وذلك عندما أوضحت بأنَّ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة تتعرض لضغوط من القوى العالميَّة الكبرى، ممَّا يعني حسب المراقبين أنَّ العدالة الدوليَّة تعيش حاليًّا واحدة من أخطر لحظاتها منذ تأسيس تلك المحكمة قَبل رُبع قرن. جاءت تلك التصريحات في ظل توتُّر متصاعد عقب العقوبات الَّتي استهدفت عددًا من قضاة المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، والَّتي عُدَّت محاولة للضغط على عمل المحكمة. حتَّى وقت قريب قَبل صدور هذا التصريح ظل الجميع على قناعة بأنَّ الجنائيَّة الدوليَّة تمَّ تأسيسها لحماية الضعفاء ومحاسبة الطغاة على مستوى العالم، لكنَّها وللمفارقة تجد نفسها حاليًّا في قلب صراع مرير مع دول ذات نفوذ عالمي تتحسس من أيِّ تحرك قد يطول قياداتها أو حلفاءها. ومع تزايد الضغوط السياسيَّة والاقتصاديَّة على الجنائيَّة الدوليَّة بسبب مواقفها من الملفات المتعلقة بـ»إسرائيل» وأوكرانيا تتزايد المخاوف من نجاح تلكم الضغوط الَّتي كشفت عنها رئيسة المحكمة، مما سينعكس سلبًا على مستقبل العدالة الدوليَّة في عالم تتلاطم فيه الأزمات الأكثر تعقيدًا. فإذا نجحت تلك الضغوط فإنَّ المبدأ الأخلاقي والقانوني الَّذي قامت عليه المحكمة والَّذي مفاده «لا أحد فوق القانون» سيكُونُ أول مَن يتصدع حيثُ يُعَدُّ هذا المبدأ الأساس الَّذي يرتكز عليه ميثاق روما أي المعاهدة التأسيسيَّة للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة الَّتي تمَّ اعتمادها في روما عام 1998، إذ يؤكد هذا المبدأ على ضرورة المساءلة الدوليَّة للجناة عن الجرائم الأشد خطورة، دون اعتبار لمناصبهم أو سُلطتهم. بذلك يتضح أنَّه في اللحظة الَّتي تستطيع فيها دولة قويَّة أن تلتف على هذا المبدأ أو تفرض سطوتها لإسكات قضاة هذه المحكمة الدوليَّة فإنَّ ذلك يعني بأنَّ الباب أصبح مشرعًا أمام عالم يتحدد فيه مصير المُجرِمين وفْقَ ميزان النفوذ وليس وفْقَ ميزان العدالة. إنَّ النتيجة المباشرة لذلك هي ميلاد ما يُمكِن وصفه بالعدالة الانتقائيَّة وهي عدالة تطول الضعيف وتغض الطرف عن القوي وتتشكل معطياتها وفْقَ مزاج التحالفات السياسيَّة العالميَّة لا وفْقَ المعايير القانونيَّة، فحين تصبح العدالة انتقائيَّة ستتحول المحكمة الجنائيَّة حينها من مؤسَّسة مستقلَّة إلى أداة قابلة للتوجيه، وهذا أخطر ما يُمكِن أن يصيب مؤسَّسة يفترض أن تكُونَ خارج دائرة الصراع السياسي. كما أنَّ الخطر الداهم على العدالة لن يقف عند الحدود القانونيَّة فحسب، بل لرُبَّما يمتدُّ إلى البُعد الأمني والإنساني، خصوصًا وأنَّ الجنائيَّة الدوليَّة بحُكم وجودها تُشكِّل حاجز ردع نفسي وسياسي لمن توعز لهم أنفسهم الرغبة في التعدي على أمن واستقرار البشريَّة. لذلك عندما يتلاشى حاجز الردع والورع من عواقب التمادي في إيذاء النفوس البشريَّة بسبب وجود جهة قضائيَّة رادعة كالجنائيَّة الدوليَّة، حينها يصبح الطريق ممهدًا أمام تصاعد الجرائم الفظيعة على مستوى العالم، مثل استهداف المدنيين والتطهير العِرقي والإخفاء القسري وتدمير البنى المدنيَّة... رغم أنَّها ـ وللأسف ـ ممارسات وحشيَّة جارية يوميًّا على أرض الواقع بمواقع عديدة بالعالم وذلك بظل وجود الجنائيَّة الدوليَّة الَّتي ما زالت تحاول الانعتاق من أيِّ ضغوط دوليَّة. ولعلَّ الأثر الاجتماعي الأخطر هو اهتزاز ثقة الشعوب في القانون الدولي نفسه، فعندما ترى المُجتمعات أنَّ العدالة الدوليَّة يُمكِن كسرها بوطأة الضغوط، سيتشكل مناخ من الشك وفقدان الثقة لينعكس بِدَوْره على استعداد الدول والشعوب للدخول في منظومات التعاون الأممي. أمَّا في مناطق النزاعات قد يولّد هذا اليأس إحساسًا جماعيًّا بالظلم ممَّا يُغذِّي دَوْرات العنف وعدم الاستقرار، وبالتالي يصبح الخاسر الأكبر هم ضحايا الحروب والاغتصاب الَّذين سيحرمون من الاعتراف بآلامهم ومن منصَّة تطالب بحقوقهم، ومن إمكان رؤية الجناة يُحاسَبون؛ إذ إنَّ إسكات الجنائيَّة الدوليَّة هو إسكات لصوتهم ودفن للحقيقة تحت ركام السياسة.

طارق أشقر

[email protected]

من أسرة تحرير «الوطن»