..والنموذج الثاني هو: قوله تعالى:(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف 88 ـ 89).
ففي قوله تعالى:(لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) نجد فعلين مؤكدين بنون التوكيد الثقيلة وجوبًا، ولكنّ واحدًا فُتِحَ ما قبل نونه (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ...)، والثاني ضُمَّ ما قبل نونه، لم العدول من فتح إلى ضم ما قبل النون، وما الذي أداه الضم من دلالة خطيرة، وقوية، وحكمة كبيرة جاءت من وراء تلك الضمة في الثاني؟.
أولًا: هم هددوا شعيبًا تهديدًا مباشرًا في شخصه قالوا:(لنُخرجَنَّك يا شعيب من أرضنا)، وهذه النون تسمى نون التوكيد المباشرة، ومن أحكامها أنها تحول الفعل المعرب إلى فعل مبني لأنه مضارع، والمضارع يبنى على الفتح إذا اتصلت به نون التوكيد المباشرة، ويبنى على السكون إن اتصلت به نون النسوة ـ كما هو معلوم ـ من قواعد النحويين في باب بناء الفعل، وإعرابه، ومعنى أنها فتحت أنه هُدِّدَ شخصيًّا وبشكل مباشر في أنهم سيخرجونه من غير شك، وتدنيا في التعامل مع الأنبياء ذكروه باسمه دون تقدير أنه نبي مرسل من قبل الله تعالى، فقالوا:(يا شعيب)، كأنما يناجون آحادهم، وهو كناية عن التدني الأخلاقي، والتسفل اللامحدود في التعامل مع الأنبياء والمرسلين، ثم اشتطوا قائلين (من أرضنا)، كأنها ليست أرضه، وهو دخيل عليهم، فالتوكيد الأول تهديد مباشر، والسياق يوضح سوء المعاملة، وقلة التقدير، وانعدام الأخلاق مع من يتوجب منهم حسن معاملتهن وكريم خطابه، ووجوب الاحترام عند مخاطبته، ثم يأتي الفعل الثاني الذي ضم ما قبل النون فيه جاء تهديدا لقوم شعيب في شخوصهم، ومعنى هذا أنهم جمع، وأنه قد تعب في دعوتهم، وبات يفكر مليا في هدايتهم حتى كثروا وظهروا ورأى الناس جهده الكبير، وسهره المتكرر على دعوتهم، فتلك الضمة جاءت إشارة إلى حذف واو الجماعة، وهي الفاعل لالتقاء الساكنين، وأصل العبارة:(لتعودون نن)، الفعل المضارع مسند إلى واو الجماعة، فهو من الأفعال الخمسة، وثبوت النون علامة رفعه، ودليل رفعه، ولكنها حذفت لكراهة توالي الأمثال، وهي نون الرفع، ونون التوكيد الثقيلة التي هي عند التحقيق بنونين، الأولى: ساكنة، والثانية: متحركة بالفتح، هكذا:(لَتَعُودُونَ+ نْنَ)، فلما توالت الأمثال، وهي النونات الثلاث حُذِفَتْ نون الرفع كراهة لهذا التوالي، فالتقى ساكنان: الأول واو الجماعة، وهي ضمير رفع ساكن (مبني على السكون)، والنون الأولى من نوني التوكيد، وهي ساكنة، ولما كان الفعل قد جيء به لبيان توكيد، وعزمهم على التهديد لهم جميعا كان بقاء تلك انون مهما وأهميته بالغة، فاضطر النحاة إلى حذف واو الجماعة (وهي الفاعل) لكراهة توالي الأمثال، وإشارة لذلك ضموا ما قبل النون، إشعارًا بأنها كانت موجودة، وحذفت وجوبا؛ لئلا يلتقي ساكنان، ثم شددت النون في النون، فصارت هناك واو جماعة فاصلة بين آخر الفعل وبين نون التوكيد؛ ومن ثم سُمِّيَتْ تلك النون بالنون غير المباشرة ؛ بسب وجود واو الجماعة المحذوفة بينها وبين آخر الفعل وهو الدال؛ ومن ثم ضمت الدال إشارة إليها، ودليلا عليها، وحدثنا أصلًا عن تلك الضمة؛ لأنها بينت لنا الجهد الجهيد، والتعب الشديد الذي عاناه سيدنا شعيب مع قومه حتى آمن هذا العدد الكبير الذي يدخل تحت واو الجماعة، ليظهر حجم السهر، وطرائق الدعوة، وسبل السهر عليها بين كلمة، وندوة، ومحاضرة، وسؤال، وزيارة، ولقاءات خاصة ومنفردة، وجماعية، وممارسة كل ألوان ووسائل الدعوة والتفكير فيها، وفي أخذ الناس إلى طريق الله، وسبيل الطاعة حتى زاد عددهم، وتنوعت شرائحهم، وتكاثرت معه حتى أَضاق، وأحزن ذلك قومه، فهددوهم، والدليل ضمة ما قبل النون التي تشير إلى واو جماعة، وأنهم عدد ليس يسيرا بل نما وكثر، وتعدد، وظهر، وزادت نبرته، وازدادت قوته، وفي ذلك تهديد كبير للكفرة المستفيدين من كفر الناس وضلالهم، والضحك عليهم ، وتسخيرهم، واستعبادهم.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية