الجمعة 12 ديسمبر 2025 م - 21 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

رائحة المدن

رائحة المدن
الأربعاء - 10 ديسمبر 2025 09:04 ص

د.أحمد مصطفى أحمد

50


ليستِ المُدُن بنايات وشوارع فحسب، ولا حتَّى بمَن يقطنونها من البَشَر. إنَّما هي تكوين بالغ التَّعقيد والعُمق منذُ استقرَّ الإنسان الأوَّل في تجمُّعات سكَّانيَّة ثابتة. وليس من قبيل خيال الشعراء وبلاغة الأدباء القول بأنَّ للمُدن «روحًا» وأنَّها تُشبه الكائن الحي في تطوُّرها ونُموِّها وحتَّى تقدُّمها وشيخوختها. ولعلَّ بعض علماء الجغرافيا، خصوصًا المهتمِّين بالسِّياسة والاجتماع، يُعَبِّرون عن ذلك أحيانًا في بعض كتاباتهم عن المُدُن والمراكز الحضريَّة حَوْلَ العالم. يعرف مَن اعتادوا السَّفر وزيارة مُدن مختلفة أنَّ لكُلِّ مدينة «طعمًا ورائحة»، ليس من أبخرة مطاعمها أو دخان مصانعها فحسب، وإنَّما رائحة تُميِّز كُلَّ مدينة هي أقرب للشعور غير الواعي لدى زائرها منها إلى الرَّائحة الواقعيَّة الَّتي تنبعث من كائن حي أو جماد. فرائحة المُدن هي مزيج من عبَق التَّاريخ وإشعاع الحاضر الحديث وإفرازات قاطنيها من طباع وخصال. إنَّما هي في النِّهاية «رائحة» تُميِّز المدينة كما نُميِّز الأشخاص الَّذين نعرفهم من رائحتهم. وتظلُّ المُدن محتفظة برائحتها المميَّزة مهما طرأ عليها من تغيُّرات على مرِّ السنين. أتحدَّث هنا عن تجربة، فقَدْ زرتُ مُدنًا كثيرة في قارَّات العالم وعشتُ في بعضها فترات طويلة، في الأغلب زيارات عمل كصحفي.

تكاد تتشابه روائح المُدن الأوروبيَّة مثلًا، إلَّا أنَّ اختلافًا واضحًا يُمكِن تمييزه بَيْنَ مُدن الشَّمال خصوصًا الشَّمال الغربي ومُدن جنوب أوروبا. فالأخيرة تشترك فيما يُمكِن تسميته «رائحة المتوسط»، وهي ليست رائحة البحر الَّتي يعبقها اليود وإنَّما هي أقرب لمزيج غريب من رائحة اليود وزهر البرتقال. أمَّا مُدن قلب القارَّة ووسطها فلها رائحة تُشبه إلى حدٍّ كبير رائحة «حوش» مبنى عتيق حتَّى في ضواحيها الَّتي قد تكُونُ حديثة البناء. قد تكُونُ بريطانيا، من بَيْنِ دوَل أوروبا، ذات رائحة مختلفة عن بقيَّة القارَّة رُبَّما لأنَّها مجموعة من الجزر. لكنَّها رائحة غريبة مميّزة تُشبه للوهلة الأولى رائحة السُّوق الكبير الَّذي تختلط فيه روائح معروضات البائعين فتعطي نكهة مركَّبة يصعب تحديدها. أمَّا رائحة مُدن أميركا الشَّماليَّة، ورغم مساحات الخضرة الطبيعيَّة الواسعة فيها، فإنَّها أقرب لرائحة الإسفلت في فصل الصَّيف. تتشابه كذلك روائح بعض المُدن الآسيويَّة، فالمُدن اليابانيَّة في أغلبها ـ رُبَّما باستثناء كيوتو ـ لها رائحة مثل رائحة شجر السنط البَرِّي. أمَّا هونج كونج مثلًا فرائحتها أقرب لروائح أغلب مُدن الخليج العربيَّة. بالطَّبع تظلُّ كُلُّ هذه «روائح انطباعيَّة» ـ إذا جاز لنا القول. إذ يُمكِن لشخصٍ آخر أن يشمَّ رائحة مختلفة لكُلِّ هذه المُدن، فكما أشرنا في البداية فإنَّ رائحة المُدن ليست مجرَّد انبعاثات وتركيبة كيماويَّة، بل هي في الأغلب مزيج ممَّا هو مادِّي وغير مادِّي وتعتمد على وعي المرء بقدر كبير.

من بَيْنِ كُلِّ مُدن بُلدان العالم في قارَّاته المختلفة، تظلُّ رائحة القاهرة مميَّزة إلى حدٍّ كبير. للأسف رُبَّما لا يُدركها جيِّدًا مَن يعيش فيها طوال الوقت بسبب التَّعوُّد عليها فلا يُميِّزها بأيِّ مقارنة. هي رائحة ليست بالأسوأ أو الأفضل عن غيرها من المُدن، فذلك حكم غير موضوعي في النِّهاية. لكنَّها بالتَّأكيد مختلفة اختلافًا جذريًّا عن روائح بقيَّة المُدن. رُبَّما لعمر المدينة، ليس فقط تاريخيًّا فقَدْ تكُونُ هناك مُدن أقدَم منها، وإنَّما لما تعاقَب عليها من أصناف البَشَر من مختلف بقاع الأرض وقد ترك كُلٌّ منهم بصمة عمرانه وأُسلوب حياته على شخصيَّة المدينة فلم تَعُدْ لها رائحة يُمكِن تشبيهها بشيء محدَّد. تبدو رائحة القاهرة وكأنَّها مزيج من روائح مختلفة لِتعطيَ انطباعًا غريبًا غير متكرر في أيِّ من المُدن الأخرى تقريبًا. ليس وكأنَّ القاهرة كُلَّها «حي العطَّارين» القديم في القاهرة الفاطميَّة، إنَّما هو مزيج من رائحة النَّهر والصَّحراء وعرق السكَّان ينتج رائحة غريبة لا هي بالذكيَّة ولا هي بالكريهة، لكنَّها نفَّاذة أخَّاذة، والأهم مختلفة. لِمَن يريد الشعور بتلك الرَّائحة أنصح بحضور إحدى ندوات الإعلامي محمود التَّميمي المجَّانيَّة الَّتي يُقدِّمها شهريًّا منذُ ثلاث سنوات بعنوان «أرواح في المدينة».

ينسج التَّميمي بَيْنَ المادَّة البصريَّة والحكي كُلَّ مرَّة موضوعًا عن القاهرة وتاريخها القديم والمعاصر، مستخدمًا إمَّا شخصيَّة أو حدثًا أو فيلمًا سينمائيًّا أو غيره. وبمهارة شديدة يتميَّز بها التَّقديم يُمكِن للحضور أثناء النَّدوة أن يشمَّ بالعين والأذن رائحة القاهرة فيما تقدِّمه تلك النَّدوات. بالطَّبع هناك الكثير الَّذي يُمكِن لزائر القاهرة أن يشمَّ منه رائحتها، لكن مَن يعيش فيها رُبَّما يحتاج إلى هذا التَّحفيز «البصري السَّمعي» كَيْ يتعرف على رائحة المدينة. مرَّة أخرى فإنَّ رائحة المُدن ليست ما تشمُّه بالأنف، إنَّما ما يكُونُه الوعي نتيجة عوامل كثيرة تخصُّ المدينة. بل إنَّ البعض كَيْ يتعرف على رائحة مدينة من كتُب تراثها، كما تتسرب إلى الذِّهن رائحة التَّوابل من الكتُب التَّاريخيَّة عن الهند أو يكاد المرء يشعر برائحة اللّوز وهو يقرأ شعرًا أو تاريخًا من إيران، وهكذا. مثلما ترتبط رائحة فلسطين، كُلِّها وليست مُدنها فحسب، برائحة الزَّعتر. لقد تعرفتُ على روائح مُدن كثيرة مختلفة، سواء زرتُها أو قرأتُ عنها، إنَّما رائحة القاهرة تظلُّ بالنِّسبة لي عصيَّة على التَّعريف. وكأنَّما كُلَّ مرَّة أحاول تكوينها في وعيي أجد رائحة جديدة، لكنَّها كُلَّها مختلفة عمَّا أعرفه من روائح المُدن.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]