رغم عدم شغفي بكرة القدم إلَّا أنَّني وجدتُ نفْسي منجذبًا لمشاهدة مباراة السودان والجزائر الأربعاء الماضي ضِمن منافسات كأس العرب بالعاصمة القطريَّة الدوحة.
فتحوَّل اهتمامي منذ الدقائق الأولى للمباراة من متابعة اتجاه الكرة إلى متابعة جمهور مشجِّعي المنتخب السوداني، فهو مشهد في تقديري أظهرت فيه كرة القدم بأنَّها نبراس يُضيء دروب الانتماء كمنفذ للروح الوطنيَّة لجمهور المشجعين النابضة أوردتهم مع نبض الأزمات في زمن الصراعات والانقسامات حين تبدو أصوات المدافع أقوى من أصوات البشر.
لقد بدت مباراة السودان والجزائر لكُلِّ مَن تابَعَها كحدَث استثنائي أعاد لجمهور المشجِّعين ثقتهم في قدرتهم على مواجهة ما تنقله إليهم أخبار الحرب حيثُ التَّقتيل والتَّشريد والنزوح وهدم المنازل بعد نهبها، في حين تؤكد لحظة المباراة أنَّ حُب الوطن أعمق من أيِّ حرب، وأنَّ جماهير المشجِّعين السودانيين تمكنوا ولو لتسعين دقيقة من جمع شتات وطنٍ كادت الحرب تقطع أوصاله.
ففي المدرجات ارتدت الجماهير ألوان العَلم السوداني كدرع يحمي الهُوِيَّة وارتفع الهتاف كصرخة جماعيَّة تقول نحن شَعب واحد لا ننسى وطننا حتَّى في أصعب اللحظات، فبدا ذلك واضحًا من خلال ما كانوا يردِّدونه من هتافات تشجيع تغنَّت للوطن وللعَلم.
فتغنوا لألوان عَلَم السودان قائلين «مرسوم في قلوبنا.. الأخضر في عيوننا.. والأحمر دم شهدائنا.. والأسود ما بنخونه.. فسوداننا فوق بكُلِّ حدوده». وعلى جانب آخر بالمدرج تغنَّى آخرون للوطن قائلين «الحبّة علّاني.. والسماؤه ظلّاني.. والنيله روّاني.. بريده سوداني». فقد شكلت الأعلام التَّي رفرفت بالمدرجات رموزًا للتماسك الوطني ولشغف جماهيري يعلو فوق الانقسامات السياسيَّة والاجتماعيَّة، حيثُ أصبح التَّشجيع فعل مقاومة مشحونًا بالفخر الوطني الَّذي شكَّل في مجمله صرحًا يبعث بالأمل في أن تُسهم وحدة الشَّعب السوداني في الميادين الرياضيَّة والثقافيَّة في العمل على إعادة رتق ما ممزَّقته الحروب. ذلك المشهد الجماهيري الرهيب الَّذي أذهل المعلقين الرياضيين والمتابعين داخل الاستاد وخارجه شاشات، أكد أنَّ الكرة النظيفة بمقدورها استنهاض الحسِّ الوطني، ليست فقط لكونها لعبة تنافسيَّة، بل لُغة مشتركة للشعوب وعابرة للحدود وبإمكانها إذا أُحسن استخدامها أن تلملمَ ما فرَّقته النزاعات، حيثُ يرى بعض علماء النفْس أنَّ لحظات تشجيع كرة القدم تساعد على «التَّفريغ الوجداني للشحنات السلبيَّة».. وما أكثرها تلك الشحنات السلبيَّة التَّي خلَّفتها مرارات حرب السودان.
ففي الدقائق التَّسعين للمباراة التَّقت داخل الملعب بالدوحة فئات مختلفة المشارب السياسيَّة والانتماءات الاجتماعيَّة والجهويَّة للسودانيين، فتلاشت في تلك الدقائق الاختلافات، فأصبح جمهور المشجِّعين جزءًا من تجربة وطنيَّة جامعة حيثُ كان كُلُّ هتاف وكُلُّ ابتسامة وأُغنيَّة وإيقاع راقص وصرخة ولمحة فرح بمثابة خيط يرجى تواصل تأثيره لِيسهمَ ـ كما أسلفتُ ـ في إعادة رتق النسيج الاجتماعي الَّذي كادت الحرب أن تمزقه لولا حرص الشَّعب السوداني بالمناطق الآمنة على إظهار تضامنه مع النَّازحين من المناطق المتأثرة بالحرب فتقاسموا معهم اللقمة والسكن والعلاج.
فبَيْنَ كُلِّ تمريرة سريعة وكُلِّ تصدٍّ وتسديدة بمباراة السودان والجزائر نبض قلب الجماهير السودانيَّة بمشاعر وطنيَّة صادقة ذكَّرت الجميع بأنَّ الهُوِيَّة الوطنيَّة ليست شعارًا، بل إحساس حقيقي وأنَّ الوحدة ليست فكرة لحظيَّة بالمدرجات، بل ميلاد للأمل من جديد تعود من خلاله الروح الوطنيَّة لتتنفس ولتتحول فرحة الانتصار المؤقتة إلى رمزيَّة أكبر مفادها بأنَّ الانتماء للوطن أقوى من أيِّ أزمة، وأنَّ الشَّعب قادر على الصمود والتَّواصل، رغم كُلِّ التَّحديات.
وفيما انتهت المباراة بالتَّعادل السلبي، إلَّا أنَّ هدف النَّصر الَّذي حققته جماهير المشجِّعين السودانيين يؤكد أنَّه مهما كانت الظروف سيبقى السودان الوطن حيًّا في قلب أبنائه، ووحدتهم أقوى من كُلِّ ما يحاول تفرقتهم.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن»