عكس البيان الختامي للقمَّة الخليجيَّة السَّادسة والأربعين جوهر الفكرة التَّي تأسَّس عَلَيْها مجلس التَّعاون لدوَل الخليج العربيَّة. فالمشهد الإقليمي المضطرب دفع دوَل المجلس إلى إعادة تأكيد تثبيت موقعها كقوَّة واحدة تتحرك وفَقَ إدراك مشترك لطبيعة التَّهديدات والأولويَّات الإقليميَّة والعالميَّة، حيثُ خرج البيان الختامي برؤية تؤكِّد أنَّ أمْنَ الخليج نسيج مترابط يعتمد على التَّنسيق العميق بَيْنَ العواصم الخليجيَّة، وأنَّ أيَّ محاولة لزعزعة استقرار دولة عضو تؤثِّر مباشرةً على المسار الاستراتيجي بأكمله. وكشفتْ لُغة البيان عن توجُّه واعٍ يمنح العمل المشترك بُعدًا واقعيًّا، حيثُ تتحول عبارات التَّضامن إلى التزامات عمليَّة تتصل بحماية الممرَّات البحريَّة، وتأمين حركة التِّجارة، وتعزيز منظومة الرَّدع السِّياسي والأمني، في لحظةٍ تحتاج فيها المنطقة إلى جبهة خليجيَّة متينة تستوعب التَّحوُّلات الدوليَّة، وتبني معادلة تحفظ الاستقرار للجميع، ما يضع المجلس أمام مرحلة جديدة من الفعل الإقليمي القادر على حماية المصالح وصياغة مستقبل ينسجم مع تطلُّعات شعوبه.
ويُشكِّل الاقتصاد حلقة وصلٍ رئيسة للتَّماسُك الَّذي أكَّده البيان الختامي، حيثُ حرص أصحاب الجلالة والسُّمو قادة دوَل المجلس ومَن ينوب عنهم على التَّركيز على المجال الاقتصادي؛ إيمانًا منهم بأنَّ مجلس التَّعاون يقترب من مرحلة أكثر نضجًا في بناء اقتصاد خليجي قادر على مواجهة تقلُّبات الاقتصاد العالمي، عَبْرَ سياسات تنطلق من فَهْمٍ مشترك لطبيعة التَّحوُّل الَّذي يشهده العالم، ويكشف الاهتمام باستكمال متطلبات السُّوق الموحَّدة والاتِّحاد الجمركي عن رغبة في الانتقال إلى نموذج اقتصادي يرتكز على التَّكامل العميق بَيْنَ الدوَل الأعضاء، مع تعزيز مشاريع البنية الأساسيَّة والطَّاقة والمياه والأمن الغذائي لتوفيرِ بيئة إنتاجيَّة أكثر صلابة، كما يتقدم المسار الرَّقمي إلى الواجهة باعتباره ركيزة تدعم هذا التَّحوُّل من خلال الدَّفع الإلكتروني، والخدمات السحابيَّة، والذَّكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، ما يمنح دوَل المجلس قدرةً أعلى على بناء اقتصاد متنوِّع يستجيب لاحتياجات المستقبل، ويصوغ واقعًا تنمويًّا يتناسب مع حجم الطُّموحات الَّتي تتطلع إليها شعوب دوَل المجلس.
ويمتدُّ المسار نفْسه إلى الجانب السِّياسي الَّذي احتلَّ مساحة محوريَّة في البيان الختامي، حيثُ عكس القادة إدراكًا واسعًا لحساسيَّة المرحلة التَّي تمرُّ بها المنطقة، وأكَّدوا على ثوابت واضحة ترتبط باحترام سيادة الدوَل، وحماية الأمن الإقليمي عَبْرَ مسارات سلميَّة تدعم الحلول الدبلوماسيَّة وتمنع توسُّع الصِّراعات. وتظهر قِيمة هذا التَّوجُّه حين نقرأ الإشادة المباشرة بجهود سلطنة عُمان ودَوْرها في إعلان وقف إطلاق النَّار بَيْنَ الولايات المُتَّحدة وجماعة أنصار الله، وهو إنجاز أعاد للممرَّات البحريَّة قدرتها على العمل بأمان، ووفَّر مظلَّة حماية للتِّجارة الدوليَّة الَّتي تعتمد عَلَيْها اقتصادات العالم. ويُضيف نجاح مسقط في استضافة مؤتمر المحيط الهندي بُعدًا آخر لهذه المكانة؛ لأنَّ إدارة هذا النَّوع من الملفَّات البحريَّة المعقَّدة تتطلب رؤية سياسيَّة راسخة وقدرة على خلق مساحات للحوار تنسجم مع مصالح دوَل المجلس، وتُعزِّز حضور الخليج كقوَّة إقليميَّة تتمسَّك بالاستقرار، وتمنح القضايا الحسَّاسة حلولًا عمليَّة تعكس عُمق التَّجربة الدبلوماسيَّة العُمانيَّة.
ويتقدم الملف الفلسطيني في البيان؛ باعتباره محورًا تتقاطع عنده المخاطر الإنسانيَّة والسياسيَّة، إذ ركَّز القادة على حماية سكَّان غزَّة وتوفير الممرَّات التَّي تَضْمن وصول الإغاثة وتهيئة ظروف إعادة الإعمار في مواجهة واقع صنعه الكيان الصهيوني الغاصب عَبْرَ استهدافه المتكرر للمَدَنيين، ووضَعَ القادة وصفة لا مناص منها لعودة الاستقرار في المنطقة عَبْرَ تجديد الالتزام بقيام دَولة فلسطينيَّة مستقلَّة على حدود الرابع من يونيو 1967، لِيعطيَ الموقف الخليجي وضوحًا يؤكِّد أنَّ المنطقة تحتاج إلى حلٍّ يُعِيد الاستقرار إلى بيئتها الإقليميَّة، ويضع هذا التَّوجُّه القضيَّة الفلسطينيَّة في قلب رؤية المجلس للسَّلام؛ لأنَّ استمرار الوضع الحالي يفتح الباب أمام موجات عدم يقين تمتدُّ آثارها إلى الأمن والتَّنمية في المنطقة كُلِّها. وتبدو القمَّة من خلال هذا الموقف في موقع يحدِّد اتِّجاهًا يدعم الحقوق الفلسطينيَّة ويرفع صوتًا يطالِب بعالم أكثر قدرة على وقف الانتهاكات وصناعة واقع جديد يتيح لشعوب المنطقة أنْ تعيشَ في مناخ يدعم البناء والتَّنمية والتَّقدُّم.