الثلاثاء 02 ديسمبر 2025 م - 11 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

أضواء كاشفة : سلطنة عمان تقتحم الفضاء

أضواء كاشفة : سلطنة عمان تقتحم الفضاء
الثلاثاء - 02 ديسمبر 2025 09:50 ص

ناصر بن سالم اليحمدي

عُرفت سلطنة عُمان عَبْرَ التَّاريخ بأنَّها بلد البحر والملَّاحين والرحلات البعيدة.. ولكنَّها ها هي اليوم تستعدُّ لِتخوضَ رحلة كبرى مختلفة من نوع جديد ليست عَبْرَ المحيطات وأعالي البحار، بل عَبْرَ الفضاء حيثُ لا حدود ولا سواحل ولا مراسٍ.. فتوقيع وزارة النقل والاتصالات وتقنيَّة المعلومات مؤخرًا اتفاقيَّة تعاون مع شركة إيرباص للدفاع والفضاء لتصميم وتصنيع وإطلاق أول قمر اصطناعي عُماني لخدمات الاتصالات «عُمان سات–1» يُشكِّل بالنسبة للعُمانيين الحلم الَّذي طال انتظار تحقيقه.. فلم تَعُد السَّماء بالنسبة لهم مجرَّد ساحة للتأمل فقط، بل صاغت الاتفاقيَّة العلاقة بَيْنَ السَّماء والإنسان العُماني من جديد، وأصبح يرى على صفحاتها عبق التَّاريخ العُماني وهو يمتزج مع روح المستقبل من خلال اسم عُمان الَّذي سيصبح مكتوبًا بالخط العريض على صفحة السَّماء. إنَّ القمر الاصطناعي المرتَقَب يعلن عن بدء فصل جديد من فصول التَّنمية.. حيثُ سيصبح همزة وصل بَيْنَ القرى والجبال والمُدن والسواحل يبثُّ نبض الاتصالات الحديثة، ويدعم الاتصالات الحكوميَّة والماليَّة والأمنيَّة، ويحمي حركة المال والاقتصاد والمؤسَّسات الحيويَّة.. وبالنسبة لنا كشَعب هو ليس مجرَّد حجر معدني يَدُور في الفضاء، بل هو فكرة وطموح وخطوة أولى في مسار لن يتوقف.. وبمثابة إعلان عن زمن تعزز فيه الدولة سيادتها الرقميَّة، وتبني قدراتها الوطنيَّة في مجالات الفضاء والتِّقنيَّات المستقبليَّة.. فهو مشروع يزرع الثِّقة في الأجيال القادمة ويصوغ علاقة جديدة بَيْنَ الإنسان العُماني وبَيْنَ العلوم الَّتي تُعِيد تشكيل العالم.. فحين تطلُّ الدولة على السَّماء عَبْرَ نافذة العِلم فإنَّها تعلن أنَّها شريكة في صناعة الغد، وأنَّها تدرك أنَّ العالم الجديد لا يفتح بالأيدي وحدها، بل بالعقول أيضًا. لقد قرَّرتِ الدَّولة أن تضع قدَمَها على أوَّل عتبة في طريق السيادة الفضائيَّة.. وتبدأ فصلًا جديدًا من علاقتها بالعالم الرَّقمي لا تكُونُ فيه مجرَّد مستخدم للتقنيَّة، بل صانعة لجزء من بنيتها العميقة.. خصوصًا أنَّنا في زمن انتقلت فيه مفاهيم الأمن من حدود وجدران وأسوار إلى بيانات ومسارات ضوئيَّة وذبذبات صامتة لم يَعُدْ من الممكن حماية الدَّولة دون أن تمتدَّ يدُها إلى الفضاء.. فالاتصالات اليوم ليست خدمة رفاهيَّة ولا ترفًا تقنيًّا، بل هي الشّريان الَّذي تمرُّ عَبْرَه كافَّة التَّعاملات الحيويَّة.. لذلك كان لا بُدَّ من الانتقال من مرحلة استئجار السّعات الفضائيَّة إلى امتلاك قمر وطني عالي الإنتاجيَّة في نطاق Ka.. بما يُشبه أن تمتلك الدَّولة مفتاح منزلها بعد سنوات من العيش فيه كضيف.. وهو ما سيُشكِّل مظلَّة أمان إضافيَّة تحكم بها الدَّولة قبضتها على مستقبلها السيبراني.. وما يضاعف هذا الأثر أنَّ تغطية القمر ستشمل الأرض والمياه الاقتصاديَّة والمحيط الإقليمي كأنَّه مظلَّة حماية تفتح فوق الرقعة الجغرافيَّة كُلِّها. لا شكَّ أنَّ المشروع الجديد ليس له مردود أمني فحسب، بل له قِيمة اقتصاديَّة كبيرة أيضًا تصبُّ في خانة تنويع مصادر الدخل؛ كونه سيُسهم في رفع مستوى الخدمات في الموانئ والمناطق الاقتصاديَّة والحقول النفطيَّة والغازيَّة ودعم شبكات الجيل الرابع والخامس وفتح أبواب واسعة أمام خدمات الاتصالات البحريَّة والجويَّة.. ناهيك عن الجهود الَّتي ستعمل على دمج الجامعات في المشروع وفتح برامج تدريب وتأهيل الكوادر الوطنيَّة، ومنح القِطاع الخاص والشَّركات الصَّغيرة والمتوسِّطة دَوْرًا في سلاسل الإمداد الفضائيَّة.. لِيتحولَ القمر إلى مدرسة وطنيَّة للمعرفة تخرِّج مهندسين وخبراء، وتبني شركات قادرة على صناعة المستقبل، وتؤسِّس لاقتصاد يعتمد على العقول الَّتي تصقلها التَّجربة.. وهو ما يتوافق مع رؤية «عُمان 2040». إنَّ مشروع القمر الاصطناعي الجديد يجسِّد قدرة الإنسان العُماني في صنع موقعه بَيْنَ الأُمم.. وأنَّه قادر على أن يبنيَ من عِلمه جسرًا يصل الأرض بالفضاء، وأن يضيفَ إلى المشهد العربي نجمةً جديدة تَدُور وتضيء.. وسينظر وقتها إلى الأعلى لا لِيتأملَ نورًا بعيدًا.. بل لِيقرأَ توقيع سلطنة عُمان الخاصَّ على صفحة السَّماء الَّتي أصبحت جزءًا من المعادلة الوطنيَّة. إنَّنا جميعًا في انتظار اللَّحظة الَّتي يكتمل فيها القمر ويستعدُّ لِيحملَ اسمه وهُوِيَّته إلى الفضاء.. لِيكُونَ «عُمان سات-1» وقتها أشبَه برسالة ترسلها البلاد إلى نفْسها قَبل أن ترسلَها إلى الكون.. رسالة تقول: إنَّنا هنا.. نكتب حضورنا في السَّماء كما كتبناه على الأرض.. فنحن وطن يعرف كيف يصنع مستقبله.. لا شيء يعوقه عن أن يزرعَ نجمه الخاصَّ في سماء العالم.

ناصر بن سالم اليحمدي

كاتب عماني