الثلاثاء 02 ديسمبر 2025 م - 11 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

«القرآن الكريم فن الدبلوماسية».. إتيكيت المجاملة ونبرة الصوت «2»

«القرآن الكريم فن الدبلوماسية».. إتيكيت المجاملة ونبرة الصوت «2»
الثلاثاء - 02 ديسمبر 2025 09:43 ص

د. سعدون بن حسين الحمداني

10

تطرَّقنا بالمقال السابق حَوْلَ سِمات إتيكيت المجاملة ونبرة الصوت وتأثيره على كاريزما وشخصيَّة المواطن، ومقالنا اليوم نكمل فيه معكم المفاهيم الرَّصينة من المدرسة الإسلاميَّة الشَّريفة، وكيف اهتمَّ الدِّين الإسلامي بهذه المفردة الَّتي تركِّز عليها الآن المدارس الأجنبيَّة، وتدْخلها ضِمن مناهجها التَّدريسيَّة الدبلوماسيَّة.

إنَّ نبرة الصوت تتغيَّر من شخص إلى آخر، ومن مهنة إلى أخرى، فمثلًا أحوال الخطيب وانفعالاته يكُونُ بحسب المعاني الَّتي يُلقيها على السامعين؛ حتَّى لا يكُونَ إلقاؤه مخالفًا للمعاني الَّتي يُلقيها. فألفاظ الاستفهام والتَّعجُّب والتَّوبيخ واللَّوم والعتاب والزَّجر والتَّفخيم والتَّهويل والتَّحزين والحيرة والوعد والوعيد ونَحْوَها، لها نبرات صوتيَّة في الإلقاء تدلُّ على المعنى المراد، وكذلك يُقال في خفض الصوت ورفعه ولِينه وشدَّته، وتكرار الكلمة وقطعها ومدّ الصوت بها لها مواضعها في الخطبة؛ حتَّى يستثيرَ الخطيب السامعين، ويلفتَ انتباههم. ما ينبغي مراعاته في نبرة الصوت هو ظروف الحديث والمناسبة؛ فإنَّ الصوت يختلف باختلاف الحضور واختلاف المكان والزمان، وموضوع الكلام.. فصوت المتكلم يختلف في مناسبة الفرح عنه في مناسبة الحزن، كما يختلف في المكان الضيِّق عنه في المكان الرَّحب المزدحم. ويرى بعض الباحثين في المجال الدبلوماسي والمختصُّون في إقامة الحلقات العمليَّة أنَّ من المناسب في الكلام أثناء المفاوضات أو المناقشات أن يبدأ بها خافضًا صوته، ثم يعلو شيئًا شيئًا؛ لأنَّ العلوَّ بعد الانخفاض سهلٌ، ووقعه على السامعين مقبول، أمَّا الخفض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه ولا يجعل صوته نمطيًّا بحيثُ يكُونُ على وتيرة واحدة؛ فإنَّ ذلك يُلقي في ردِّ فعل الطَّرف الثاني مللًا، بل يُغيِّر النبرة الصوتيَّة بما يتناسب مع المعاني الَّتي تحويها الألفاظ. وفي المدرسة الإسلاميَّة كان كثير من الخطباء ـ خصوصًا كبار السِّن ـ يرتِّلون الخطبة كتَرتيل القرآن، وهذا لا يتناسب مع الخطبة، وإن وجد السامعون له لذَّة في مسامعهم؛ لكنَّها ليست لذَّة بالمعاني والألفاظ وإنَّما هي بصوت الخطيب ـ ولا سِيَّما إن كان صوته حسنًا ـ وذلك يشغلهم عن معانيها وفوائدها، ولرُبَّما أنَّهم لم يدركوا ما فيها من معانٍ وألفاظ. إنَّ إتيكيت الصوت وما يحمله من أدب التَّعامل يعكس صورة حضاريَّة وراقية، وسوف ينظر لك الجميع بكُلِّ احترام وتقدير؛ لِمَا له من سِمات جميلة وحسَّاسة وهادئة، ولا ننسى اختيار الكلمات المناسبة والمتداولة على العكس من الصوت المرتفع والنبرة العالية المستهجنة من أغلبيَّة أفراد المُجتمع، حيثُ قال تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير) (لقمان ـ 19). وقد أدَّبَنا القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة بأنَّ صوت الحمير عالي النبرة ومرتفع الصوت؛ لذلك يكُونُ مكروهًا وغير محبَّذ عكس الأصوات الجميلة الهادئة، وأكَّد الخالق على أهميَّة خفض الصوت؛ لِمَا له من هيبة ووقار قال تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (لقمان ـ 12). وهنا كلمة (اغضض) بمعنى (أخفض الصوت على أن يكُونَ هادئًا وجميلًا). إنَّ هناك تكريمًا من ربِّ العزَّة للَّذين يخفضون الصوت أمام الرسول الكريم؛ لذلك فإنَّ الإسلام والقرآن الكريم يعلِّمان البشريَّة لُغة الجسد وإتيكيت الصوت؛ لِمَا له أهميَّة كبيرة في المُجتمع ويبرز للشخص هيبته ووقاره بَيْنَ بقيَّة الأفراد، قال تعالى: (إنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات ـ 3). إنَّ هذا التَّكريم الإلهي الأخروي يقابله في الدُّنيا كُلُّ الاحترام والتَّقدير من هذا الشَّخص الَّذي يجسِّد ويعمل بما أمرَه الله سبحانه، وإنَّ قرآننا الكريم لهو فعلًا أفضل من كُلِّ المدارس الدبلوماسيَّة؛ لذلك علينا الالتزام والعمل به على مختلف الأزمان والأماكن من العائلة إلى أُسرة الموظفين، سواء في الوزارة أو الأماكن الرسميَّة الأخرى بمختلف أنواعها. إنَّ حُسن الصوت وهدوء نبرته ووضوح مخارج الأصوات من العلامات الَّتي علَّمنا إيَّاها رسولنا الكريم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في حديثه الشَّريف:(زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ) أي: بتحسين أصواتكم عند القراءة فإنَّ الكلام الحَسن يزيد حسنًا وزينة بالصوت الحَسن، لذلك نرى الخشوع وحُسن الصوت في التَّرتيل والتَّجويد لِتظهرَ نعمة الصوت الَّتي وهبها الله لنا؛ لذلك علينا أن نربِّيَ أطفالنا وأبناءنا على ذلك بدلًا من أن نلهثَ خلف المدارس الغربيَّة. وفي الختام، علينا الاقتداء بمفاهيم القرآن الكريم والسِّيرة النبويَّة الشَّريفة والعمل به لنا جميعًا ابتداءً من الأُسرة الصغيرة من الابن والوالدين (الرعيَّة المسؤول بَيْنَ الأدنى والأعلى) الموظف ومديره إلى آخر الأمثلة الَّتي يُمكِن تطبيقها، ونكُونُ قدوةً بالمُجتمع في تطبيق أفضل ما يكُونُ.

د. سعدون بن حسين الحمداني

دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت