.. ثم جاء التحديد الأكبر: (عندها جنة المأوى)، ومَنْ كان منا يعرف مكان جنة المأوى؟!، وأنها في السماء السابعة؟!، وأنها تلك الجنة التي وعد اللهُ بها المتقين، فهي كناية عن جلال تلك الجنة، وكمال سدرة المنتهى، ورحمة الله بنا؛ حيث أعلَمَنا بسدرة المنتهى، ومكانها، وأن عندها جنة المأوى التي ذكرها في سورة السجدة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذلك في قوله تعالى:(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وكما ذكرها في سورة النازعات لمن خاف مقام ربه، ونهى نفسه عن الهوى، والمعصية:(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وقوله:(إذ يغشى السدرة ما يغشى) هو كناية عن سعة فِعْلِ الله في كونه، وما يحيطه بسدرة المنتهى من الأمور والمقادير مما لا يحصى عددًا، ولا يُتَصَوَّر تخيُّلًا، ومددًا، قال المفسرون:(إذ يغشى السدرة من أمر الله شيء عظيم، لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صفة عظيمة من الثبات والطاعة)، فهي فيها من العجائب ما فيها، فيغشى بمعنى يغطِّي، وقوله:(ما يغشى)، أي: يغطيها ما يغطِّيها من العجائب، والأنوار، والأسرار من الله عز وجل، فهي كناية عن بديع صنع الله، وجليل، وكمال فضله فيها، وأنها فوق تصورات البشر، وتخيلاتهم.
وفي قوله:(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) هو كناية عن تصديقه التام، وخشوعه المُخْبِت، وأنه لم يتجاوز ما أمر به، وما مالَ له بصرٌ، ولا طغى، ولا زاد على ما رآه شيئًا، قال بعض المفسرين: (ما مال بصره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمَّا أُمِرَ برؤيته، وما جاوزه إلى ما لم يُؤْمَرْ برؤيته، وتنتهي الآياتُ الكريمات بختام كريم، يبيِّن أصل، وهدف، وغرض المعراج، وهو:(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)، فهذا أسلوب قسم، فيه اللام الواقعة في جواب القسم، وفيه المقسَم عليه، وحُذِفَ فقط حرف القسم، والمقسم به؛ لتقدمه من قبلُ، وفيه حرف التحقيق (قد)، والفعل الماضي:(رأى) الذي كان في الإسراء رباعيًا:(لِنُرِيَهُ) فقد صار هنا ـ في سورة النجم ـ ثلاثيًا، فقد أقدره الله على الإراءة، فصار يرى الأمور بقدرة الله، وصار يفهم كلَّ شيء بنفسه، فلم يَعُدْ معه سيدُنا جبريل الذي كان يُرِيهِ، ويفسِّر له، ويشرح له المرئياتِ، فهو الآن يَرَى بنفسه، ويشاهد ما يعرضه ربُّه عليه بنفسه، فقد رأى بنفسه من آيات الله الكبرى، وللمعربين في قوله تعالى:(الكبرى) لهم توجيهان إعرابيان، الأول: أنها صفة للآيات، أي رأى الآيات الكبرى، والثاني: أنها (أي الكبرى) هي مفعول للفعل:(رأى) أي: رأى الكبرى من آيات الله، وراحوا يفسِّرون دلالة (الكبرى) تفسيرات كثيرة، والآية كناية عن رحمة الله، وسعة علمه، وجلال قدرته على كونه، وإحاطته بكل شيء في ماضي الحياة، وحاضرها، ومستقبلها، وأعلم رسوله بكل ما شاء أن يعلمه به، وأراه كلَّ الآيات التي ستفسر له كلَّ ما سيحدث، وما سيكون؛ ليكون على ذكر منها، ويتفهم عواقب كل شيء، وكانت مرئيات شاملة، ومحيطة وقد وضحَّناها في مقالات كثيرة سابقة، يمكن الرجوع إليها، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم، والحمد لله رب العالمين.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية