الأربعاء 19 نوفمبر 2025 م - 28 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : العشرون من نوفمبر .. ذاكرة وطنية لقراءة التاريخ العماني وتجلياته فـي وعي وسلوك الأجيال

في العمق : العشرون من نوفمبر .. ذاكرة وطنية لقراءة التاريخ العماني وتجلياته فـي وعي وسلوك الأجيال
الثلاثاء - 18 نوفمبر 2025 10:10 ص

د.رجب بن علي العويسي

20


تحتفل سلطنة عُمان بيومها الوطني، في العشرين من نوفمبر المَجيد، لــ(281) عامًا منذ تأسيس الدَّولة البوسعيدية على يد الإمام أحمد بن سعيد، تاريخ عريق يحمل في طيَّاته الكثير والكثير من الاستحقاقات والدلالات الَّتي جسَّدها سلاطين عُمان العظام في تاريخهم الشامخ مجدًا وعزًّا وفخرًا، يوم وطني ماجد يعظم من قِيمة التاريخ وتجلِّياته في تقدُّم الأوطان ونهضة الإنسان، ليرسم منها محطَّات النجاح والتميُّز ومنصَّات للعمل والعطاء والإنجاز، وهو بدلالاته يضع أجيال عُمان الحاضر والمستقبل أمام قراءة معمقة للتاريخ العُماني بكُلِّ تفاصيله ومواقفه ونضاله وبطولاته، واستحضار العِبر والدروس الَّتي قدَّمها قادة وسلاطين عظام منذ منتصف القرن الثامن عشر، حين نجح الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي في لمِّ شتات الوطن وبناء قواعد الاستقرار، لتستمرَّ المسيرة أمنًا وأمانًا وسلامًا واستقرارًا ونهضةً وتقدُّمًا، تأريخ يحمل في طيَّاته بناء دولة عظيمة، ونهضة إنسانيَّة راقية، ومَجد حاضر حاضنًا لمواقف عظيمة، منصَّة للتأمل في مسار الدولة العُمانيَّة الحديثة، بما جسَّده سلاطين عُمان من كفاءة وقدرة في قيادة مسار التطور بما يناسب مع المتغيرات الزمانيَّة والمكانيَّة الحاصلة، وكيف استطاع السلاطين العظام عَبْرَ فترات تاريخيَّة مختلفة أن يصنعوا هُوِيَّة عُمانيَّة متماسكة، تتَّسم بالسلام والسيادة والثبات في مواجهة الانكسارات؛ فهو يوم الاستمراريَّة الَّذي نجح فيه الإمام أحمد بن سعيد في معالجة ووأد الاضطراب السياسي الَّذي عاشته عُمان، لِيبدأَ عهدًا من الوحدة وإعادة بناء الدولة وتثبيت أركانها، وهو يوم يحمل في طيَّاته معاني القوَّة والبناء، بما أنتجته القوَّة البحريَّة والتجاريَّة العُمانيَّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من شواهد إثبات وحضور السيادة والريادة والقيادة، لِتستمرَّ مَسيرة العمل إلى مرحلة بناء الدولة المدنيَّة الحديثة بقيادة باني نهضة عُمان الحديثة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ في القرنين العشرين والحادي والعشرين، لِيواصلَ مَسيرة النهضة المُتجدِّدة جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه.

لقد عمل الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، الَّذي حكَم من (1744 – 1783)، على توحيد البلاد بعد فترة صراع وانقسام، وبناء جيش قوي وإعادة ترميم الأسطول البحري، وتأسيس إدارة ماليَّة واقتصاديَّة منضبطة، وترسيخ الاستقرار الداخلي وإعادة الثقة للدولة. وشهد عهد السُّلطان سلطان بن أحمد (1792–1804م) جهودًا واضحة لإعادة تثبيت الاستقرار الداخلي وترسيخ دعائم الحكم، كما عمل على تعزيز النفوذ العُماني في منطقة الخليج ممَّا أعاد التأكيد على حضور عُمان البحري وقدرتها على حماية مصالحها الاستراتيجيَّة. وتنشيط حركة التجارة والاقتصاد وتوسيع الروابط التجاريَّة. بالإضافة إلى إجراء إصلاحات ماليَّة وتنظيم شؤون الدولة بما يتناسب مع متطلبات المرحلة، وعهد السُّلطان سعيد بن سلطان، الَّذي امتد حُكمه من (1806 – 1856)، يُمثِّل عصر القوَّة البحريَّة والتجارة الدوليَّة، إذ ارتبط ببناء إمبراطوريَّة واسعة امتدَّت من عُمان إلى زنجبار وشرق إفريقيا، وتعزيز القوَّة البحريَّة العُمانيَّة حتَّى أصبحت من أقوى القوى في المحيط الهندي، وازدهار التجارة الدوليَّة وارتباط عُمان بسلاسل تجارة عالميَّة، إضافة إلى نشر التعليم والعمران في زنجبار ومسقط. أمَّا السُّلطان فيصل بن تركي، الَّذي حكَم من (1888 – 1913)، والسُّلطان تيمور بن فيصل، الَّذي حكَم من (1913 – 1932)، فقد ارتبط حُكمهما بإدارة مرحلة صعبة شهدت التدخلات الخارجيَّة والتحدِّيات السياسيَّة، مع الحفاظ على استقلال القرار العُماني رغم الضغوط، ووضع بذور التحديث الإداري والمؤسَّسي، ثم جاء السُّلطان سعيد بن تيمور، الَّذي حكَم من (1932ـ1970)، وارتبط عهده ببداية تشكُّل الدولة النظاميَّة وبناء المؤسَّسات الحديثة، والحفاظ على الهُوِيَّة العُمانيَّة وسط متغيرات إقليميَّة صعبة.

وتولَّى السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ الحكم من (1970ـ2020)، وهو باني نهضة عُمان الحديثة، الَّذي أعاد لعُمان هيبتها وقوَّتها ونهضتها ومكانتها وموقعها بَيْنَ العالم. فقد عمل وعلى مدى خمسة عقود على إحداث نقلة نوعيَّة حضاريَّة لعُمان، وحَّد فيها أركان الدولة ووجَّه الولاء فيها للوطن، وفتَح آفاق التقدُّم والتطوُّر في مختلف المجالات التعليميَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والإداريَّة والقضائيَّة والاجتماعيَّة، وعزَّز السياسة الخارجيَّة للسَّلطنة، ورسَّخ حضورها في المنظَّمات والمحافل الدوليَّة والإقليميَّة. وشهدت سلطنة عُمان خلال حُكمه تحوُّلًا كبيرًا في بناء الدولة العصريَّة وتهيئة البنى الأساسيَّة الحديثة والمتطورة في كافَّة رُبوع الوطن.

وها هو حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ الَّذي تولى مقاليد الحُكم في الحادي عشر من يناير 2020، يقود البلاد في نهضة متجدِّدة على طريق البناء والتنمية، مواصلًا مَسيرة النهضة المباركة كما أراد لها السُّلطان الراحل، لِتظلَّ عُمان الغاية الأسمى. فقد عمل جلالته على إطلاق رؤية «عُمان 2040» وتنفيذ مشاريع تنمويَّة واقتصاديَّة كبرى، وتعميق سياسات التنويع الاقتصادي وجذب الاستثمارات، وتعزيز التحوُّل الرَّقمي وبناء اقتصاد المعرفة، وتجديد منظومة التشريعات الداعمة للابتكار والحوكمة، مع استمرار السياسة الخارجيَّة القائمة على التوازن والحكمة والسلام.

إنَّ ما حملته هذه المراحل التاريخيَّة من إنجازات سلاطين عُمان وما قدَّموه في خدمة الأُمَّة العُمانيَّة على مرِّ العصور، يضع أبناء وبنات عُمان اليوم أمام رصيد قِيَمـي وأخلاقي وتاريخي وإنساني حافل بالنماذج والشواهد العظيمة. وهو رصيد يصنع مرحلة جديدة من العمل والجد والاجتهاد، يستنطق فيها أجيال الحاضر والمستقبل قِيَم المواطنة والولاء والانتماء، ويستنهض الروح الوطنيَّة في عزَّة وشموخ وثقة وفخر؛ فإنَّ الاحتفال بيوم العشرين من نوفمبر يؤسِّس لمرحلة جديدة من الوعي التاريخي، الَّذي يوقظ في نفوس أجيال عُمان الحاليَّة والقادمة ذاكرتهم التاريخيَّة وتجلِّيات هُوِيَّتهم الحضاريَّة، مدركِين لكُلِّ حلقات التاريخ الَّتي مرَّت بها عُمان لِيقفُوا من خلالها على تلكم الشواهد المضيئة والمواقف البطوليَّة العظيمة الَّتي بذلها الأجداد والسلاطين العظام والقدوات والنماذج الَّتي أصبحت مصدر فخر وعزَّة وكرامة، فتعيش الأجيال هذا الوعي وتتفاعل مع هذه المواقف بكُلِّ حماس وشغف وفخر وعزَّة وكرامة وانتصار للإرادة في كُلِّ المواقف اليوميَّة، فمن يعرف تاريخه يصنع مستقبله بثقة وإخلاص، فإنَّ مسألة وعي الأجيال بالتاريخ لا يقتصر على المواقف والأحداث والَّتي قد يرى البعض أنَّها انتهت ولها زمانها وقد لا يهم الأجيال معرفتها لِمَا فيها من نكبات وتحدِّيات، وبالشَّكل الَّذي يفتح الآفاق للمستقبل فيترجمون قِيَمها في حياتهم ويصبح التاريخ وعيًا وسُلوكًا وعقيدة تؤصِّل في الأجيال قِيَم الاجتهاد والعمل واحترام النظام والإخلاص، والمحافظة على مكتسبات الوطن، وهي دعوة أيضًا إلى تأصيل الهُوِيَّة والانتماء؛ ذلك أنَّ قراءة إنجازات السلاطين بما يمنح الأجيال شعورًا بالاعتزاز وتدفعهم للإسهام في البناء الوطني، وتعميق الولاء المتفرد للسُّلطان وحماية الوطن، فإنَّ استلهام التاريخ يغرس في عقيدة الأجيال الولاء للسُّلطان، والالتزام بالدفاع عن الوطن، والإسهام في استقراره وأمنه وازدهاره كُلّ بحسب استطاعته وقدراته.

وانطلاقًا من أولويَّة «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنيَّة» في رؤية «عُمان 2040»؛ فإنَّ ما يُمكِن أن تؤصِّلَه مستهدفات هذه الأولويَّة من معاني الاعتزاز والفخر والولاء والانتماء، فإنَّها أيضًا تؤصِّل في الأجيال مفهوم القيادة والريادة والمبادرة والابتكار والبحث والاختراع والتفكير، وإدارة الموارد والشراكة والمسؤوليَّة والحوكمة والنزاهة والقوَّة الوطنيَّة، وصناعة القدوات والنماذج، وبناء الاقتصاد وتعزيز الكفاءة الإداريَّة، وهي منطلقات عكستها سِيرة سلاطين عُمان، لِتقرأَ اليوم في صفحات الإنجاز وبرامج التنمية ورؤية المستقبل بأحْرُف من نور، وتسجّل شواهد إثبات على أن تكُونَ تلك الأعمال الجليلة والمواقف النبيلة محطَّات للتأمُّل والتعمُّق، وإعادة إنتاج الصورة المشرقة لِتقفَ على الحاضر الزاهر بروح المستقبل المشرق وبقِيَم الماضي التليد.

ويبقى العشرون من نوفمبر لُغة جامعة، ورابطة وطنيَّة، وذاكرة انتماء خالدة، تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وتمنح أجيال عُمان رصيدًا من العِبرة والخبرة، والوعي والفرادة، لِتواصلَ نهضة عُمان المتجدِّدة مَسيرتها المباركة بثقة وعزم وإيمان، كما أراد جلالة السُّلطان «إنَّنا نقف اليوم بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين على أعتاب مرحلة مهمَّة من مراحل التنمية والبناء في عُمان».

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]