يهلُّ علينا اليوم الوطني المَجيد لسلطنة عُمان كنافذة تطلُّ مِنها الرُّوح على الطَّريق الَّذي رسمَتْه رؤية حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ لمستقبلِ التعليم في عُمان، حيثُ يتحول الاحتفال إلى لحظة وعي نرى فيها كيف تُبنى الدول عِندَما تُمنح المعرفة مكانها الطَّبيعي في قلبِ المشروع الوطني. وتتجلَّى ملامح النَّهضة المُتجدِّدة في تفاصيل واضحة تبدأ من المدرسة وتصلُ إلى المختبر، وتتحرك عَبْرَ آلاف المُعلِّمين الَّذين يُشكِّلون قوَّة المعرفة المنتشرة على جغرافيا واسعة تضمُّ (1303) مدارس، تعمل كشبكة واحدة هدفها تجهيز جيل قادر على الإمساك بمستقبل سريع ومتطلب، كما تزداد قِيمة هذا المشهد حين نقفُ أمام الاهتمام السَّامي الَّذي ظهر خلال زيارة جلالته لمدرسة السُّلطان فيصل بن تركي، حيثُ تتقدم التقنيَّات الحديثة لِتصبحَ جزءًا من الهُوِيَّة التعليميَّة الجديدة، وتتحوَّل المدرسة إلى مساحة تفتح عقول الطَّلبة على أدوات العصر، وتربطهم بالعالم عَبْرَ معرفة تمتلك القدرة على صناعة قِيمة وطنيَّة حقيقيَّة، وهو ما يجعلُ المواطن يشعُر بأنَّ الدَّولة تتحرك بمنطق بناء طويل، وأنَّ التَّعليم لم يَعُدْ قِطاعًا خدميًّا، فهو اليوم قاعدة القوَّة الَّتي سيقفُ عليها كُلُّ مشروع اقتصادي واجتماعي في العقود المقبلة.
إنَّ قِطاع التَّعليم في سلطنة عُمان يتحرك اليوم على أرضيَّة أكثر رسوخًا؛ لأنَّ الدَّولة تعمل على بناء مدرسة تمتلك القدرة على خلقِ مهاراتٍ جديدة لا تُكتَسب من الكتُب وَحْدَها، وإنَّما من بيئة تعليميَّة تعرف كيف تُدير مواهب الطلَّاب، وتفتح لهم طريق المعرفة التقنيَّة من أبوابها الواسعة. ويتقدَّم هذا القِطاع عَبْرَ منظومة بَشَريَّة يصلُ عددُ مُعلِّميها إلى عشرات الآلاف، يعملون في شبكة واسعة من المدارس تمتدُّ في المحافظات كأنَّها نقاط ضَوءٍ تُشكِّل خريطة وطنيَّة واحدة. ويظهر أثَر هذا التوسُّع في استلام مبانٍ مدرسيَّة جديدة بتهوية أفضل، ومختبرات حديثة، وفصول مجهَّزة لأساليب تعليم لا تعترف بالجمود.. ونتيجةَ ما حدَث مِن تحوُّل أصبحتِ المدرسة جزءًا من مشروع وطني يُعِيدُ تعريف دَوْر المُعلِّم ودَوْر الطَّالب، ويرفع من جودة الحياة التعليميَّة في كُلِّ ولاية، ويُقدِّم نموذجًا يؤكِّد أنَّ الاستثمار الحقيقي يبدأ من الإنسان، ويتحوَّل من خلاله الطُّموح الوطني إلى خطوات عمليَّة تُرَى على أرض الواقع.
ويتَّسع مشهد التَّطوير لِيصلَ إلى التَّعليم العالي والبحث العلمي، حيثُ تتقدَّم فيه المؤسَّسات الوطنيَّة بخطواتٍ تظهر أثَر الاستثمار الطَّويل في بناء المعرفة. ولعلَّ ظهور خمس جامعات عُمانيَّة في تصنيف (QS2026) يُقدِّم دليلًا ملموسًا على حركة صاعدة في جودة التَّعليم، ويمنح حضور جامعة السُّلطان قابوس قِيمةً إضافيَّة بعد أنْ صعدتْ ثمانيةً وعشرينَ مركزًا لِتبلغَ المرتبة الـ(334) عالميًّا، هذا التَّطوُّر يعكس تحسُّن البيئة الأكاديميَّة والبحثيَّة الَّتي تستند إلى مشروعات علميَّة يجري تمويلها وفْقَ معايير أداء؛ إذ بلغ عدد المشروعات المدعومة منذُ 2018 أكثر من ألفَيْنِ ومئتَيْنِ وثمانية وعشرين مشروعًا في برنامج التَّمويل المؤسَّسي، إلى جانب تمويل أربعمئة وخمسة وسبعين مشروعًا في العام الماضي بقِيمةٍ وصلت إلى مليونيْنِ وأربعمئة ألف ريال عُماني. وتتحرك هذه المشروعات داخل منظومة تَبني ارتباطًا أعمق بَيْنَ الجامعات والقِطاعات الاقتصاديَّة، ما يجعل البحث العلمي رافعةً واقعيَّة للاقتصاد الوطني، ويحوِّل المعرفة إلى قدرة إنتاجيَّة تُضيف وزنًا جديدًا لمكانة سلطنة عُمان في المشهد الإقليمي والدّولي.
ويأخذ مسار المعرفة في عُمان شكلَه الأكثر نضجًا حين تتقدم منظومة الابتكار لِتعملَ جنبًا إلى جنبٍ مع التَّعليم العالي والبحث العلمي، فيتحوَّل الإنتاج الفكري إلى قِيمة اقتصاديَّة ومُجتمعيَّة تتجاوز حدود الجامعات. تبدو ملامح هذا التَّحوُّل في البرامج المتقدِّمة الَّتي تُعزِّز حضور العقل العُماني في دوائر الاختراع وريادة الأعمال، من دعم المراكز البحثيَّة إلى تحويل مشروعات التخرُّج إلى شركات ناشئة، ثمَّ إلى المشاركة الفاعلة في منصَّات دوليَّة تستعرض قدرات الشَّباب وتُقدِّم صورةَ دَولةٍ تستثمر في خيال أبنائها قَبل مشاريعهم، ويتكوَّنُ من هذه الحلقات المتَّصلة مناخ معرفي يُعِيدُ تعريف علاقة المواطن بالعِلم، ويمنحُ الباحثَ مساحةً لِيكُونَ جزءًا من حركة وطنيَّة تُصنع فيها الحلول داخل المختبرات، وتُختبر داخل مؤسَّسات الدَّولة، ثمَّ تجدُ طريقها إلى القِطاع الصِّناعي. وتمتدُّ أهميَّة هذا المشهد إلى بناء ثقافة وطنيَّة جديدة تَرى في المعرفة قوَّة ناعمة تفتح أبواب المستقبل، وتمنحُ الجيل الجديد ثقة أوسع في دَوْره داخل اقتصاد يتغيَّر بسرعة، حيثُ يتحقق ذلك ضِمْن رؤية سامية تُعِيدُ الاعتبار لبناء الإنسان، وهو الأساس الَّذي أرساه عاهل البلاد المُفدَّى؛ لِتستمرَّ عُمان في صياغة مشروعها القائم على المعرفة والابتكار بوصفهما الطريق الأكثر أمانًا نَحْوَ مستقبل وطني واثق الخُطى.