تتحرك سلطنة عُمان في لحظة اقتصاديَّة تتجاوز حدود الأرقام المعلنة إلى بناء واقع جديد تتغيَّر فيه موازين التنمية بَيْنَ المحافظات. فالمشروعات النوعيَّة الـ(١٤) الَّتي أعلن عنها جهاز الاستثمار العُماني تبدو خطوةً تُعِيد تشكيل جغرافيا النُّمو؛ إذ تتقدم خطوط المياه في الداخليَّة والباطنة والشرقيَّة كمنشآت استراتيجيَّة تُعِيد تعريف الأمن المائي بوصفه قاعدةً للصناعة والسكَّان معًا، كما يفتح حضور المشروعات المائيَّة بابًا لِفَهمٍ أعمق لطبيعة التحوُّل الجاري، فالمياه تتحول إلى رافعة اقتصاديَّة تمنح المحافظات قدرة على استقبال توسعات صناعيَّة وزراعيَّة تمتدُّ حتَّى 2040. ويقترب المشهد من خريطة تبنى فيه التنمية على احتياجات المكان لا على مركزيَّة القرار، ويظهر هذا الاتِّجاه في صعود مجمَّع التمور في نزوى الَّذي يربط الزراعة بسلاسل القِيمة الحديثة، وفي مساحة صناعيَّة جديدة في صحار عَبْرَ مجمَّع لدائن الَّذي ينقل الصناعة إلى نطاق أوسع يبدأ من البوليمرات وينتهي في التطبيقات الهندسيَّة والطبيَّة.
كما يتقدم المشهد الاقتصادي بخطوات تكشف عقلًا حكوميًّا يرى في الاستثمار أداة لإعادة هندسة الواقع، توسِّع منظومة «مدائن» يعكس تصوُّرًا جديدًا لِدَوْر المُدُن الصناعيَّة الَّتي أضحتْ منظومات تطرح نمطًا إنتاجيًّا يعتمد على التقنية والتحليل اللحظي لحركة الطلب. فالمُدُن تمتدُّ من عبري إلى السويق والمضيبي وصور كمسار يرفع جاهزيَّة السَّلطنة لاستقبال صناعات تحتاج إلى بيئة رقميَّة كاملة، والتحوُّل الرَّقمي الَّذي تعمل عليه المؤسَّسة يضع الصناعة العُمانيَّة أمام مستويات أعلى من المنافسة، ويمنح المستثمر تصوُّرًا أوضح عن بيئة أعمال تتعامل مع المعلومة بوصفها عنصرًا إنتاجيًّا لا يقلُّ أهميَّة عن رأس المال.. ومن هنا تخرج الصناعة من دائرة التقليد إلى دائرة الابتكار، وتتوسَّع القِيمة المحليَّة المضافة في اتِّجاه يضع المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة داخل خطوط الإنتاج الكبرى.
ويظهر الأثر الاجتماعي لهذا التحوُّل حين نقترب من المحافظات الَّتي بدأتْ تستعيدُ دَوْرَها داخل الدَّوْرة الاقتصاديَّة، فالوظائف الَّتي تولِّدها المشروعات تمنح الشَّباب في المحافظات مسارًا جديدًا للانتقال من انتظار الفرص إلى صناعتها، كما تزداد قدرة المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة على الدخول في سلاسل التوريد عَبْرَ منصَّات رقميَّة وبرامج تشغيل تعتمد على مهارات دقيقة لا على عمالة دورانيَّة، كما يكتسب المُجتمع حضورًا جديدًا داخل مشروع التنمية، حيثُ يُصبح المواطن جزءًا من إنتاج فعلي يرتبط بالبنية الأساسيَّة والصناعة والغذاء، وتتحول العلاقة بَيْنَ المواطن والمكان إلى علاقة إنتاج لا علاقة انتظار. بالإضافة إلى اكتساب المحافظات هُوِيَّات اقتصاديَّة متمايزة، ويظهر الخطُّ الفاصل بَيْنَ اقتصاد يوزِّع الفرص من المركز واقتصاد يخلق الفرص داخل الجغرافيا نفسها.
إنَّ الأُفق الاقتصادي لسلطنة عُمان يتشكل كمرحلة يتقاطع فيها الإنسان مع الصناعة في منطق واحد، فالمشروعات الَّتي يقودها جهاز الاستثمار العُماني و»مدائن» ترسم حدودًا جديدة لاقتصاد قادر على حماية نفسه من تقلُّبات السُّوق عَبْرَ تنويع مصادر الإنتاج وتوسيع قاعدة الاستثمار، والمسار الرَّقمي يرفع مستوى الكفاءة، ويمنح المُدُن الصناعيَّة قدرة على دخول أسواق تتغير بسرعة هائلة، لِيقتربَ الاقتصاد الوطني من لحظة يتعامل فيها مع التنمية كمشروع طويل المدى قائم على تراكم الخبرة وبناء القدرات وتعميق المعرفة الإنتاجيَّة. وتظهر السَّلطنة ككيان اقتصادي واعٍ يتحرك بثقة نَحْوَ دَوْر أوسع في المنافسة الإقليميَّة والدوليَّة، ويُعِيد صياغة موقعه في خريطة النُّمو من خلال جغرافيا اقتصاديَّة تتقدم فيها المحافظات كأقطاب إنتاج قادرة على توليد الثروة وصناعة المستقبل.