تتصاعد حملة الإعلام اليميني والمتطرف والقريب للمحافظين والموالي للصهاينة، ومن سياسيين في تلك التيَّارات ببريطانيا، على هيئة الإذاعة البريطانيَّة (بي بي سي) مع استقالة مدير المؤسَّسة ومديرة الأخبار فيها بعد الاعتراف بتحرير غير سليم لخِطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الهجوم على مبنى الكابيتول قَبل خمس سنوات. ليست الحملات على (بي بي سي) بجديدة، خصوصًا من بعض منافذ الإعلام والسياسيين، لكنَّها هذه المرَّة «تستقوي» باعتراف (بي بي سي) بالخطأ بحقِّ شاغل أهمِّ منصب بالعالم في واشنطن والرجُل المثير للجدل والدَّاعم لتيَّار متطرف صاعد في بريطانيا. وتركِّز الحملة على أهمِّ وأخطر الأمور فيما يتعلق بالمنفذ الإعلامي العام المستقل، وهو تمويل الهيئة من اشتراكات المواطنين الَّتي تصل إلى بضعة مليارات سنويًّا. ويتصور القائمون على الحملة ومن وراءهم أنَّ بالإمكان «تخريب» مسألة التمويل الشَّعبي، ما يعني انهيار المؤسَّسة والقضاء على الرمز الوحيد الباقي من «الإمبراطوريَّة البريطانيَّة». فقَدْ بيع اليخت «بريتانيا» وتقلَّص «المجلس البريطاني» ولم يبقَ من رموز تبهر العالم سوى جواهر التاج الملكي و(بي بي سي).
لا يُمكِن النظر إلى هذه الحملة على أنَّها فعلًا بسبب «مونتاج» خِطابات ترامب، حتَّى لو كان خطأ متعمدًا من قِبل محرِّري برنامج «بانوراما» في (بي بي سي) وهو رُبَّما أهمُّ برنامج للشؤون الجارية في العالم. فتقرير المراقب الخارجي مايكل بريسكوت الَّذي سجَّل ذلك الخطأ يسجِّل في أغلبه اتهامات لـ(بي بي سي) بالتحيُّز ضدَّ «إسرائيل» في الحرب على غزَّة. منذ سنوات تستعين (بي بي سي) بمراقبين من خارج المؤسَّسة لمراقبة بثِّها الإخباري لتحديد الأخطاء بهدف معالجتها، وهناك وصف يطلقه كثير من العاملين في المؤسَّسة على أغلب هؤلاء بأنَّهم «الرقيب الإسرائيلي». أمَّا مَن سرَّب التقرير لصحيفة «الديلي تلجراف» اليمينيَّة فعلى الأغلب هو عضو مجلس أمناء الهيئة روبي جيب، صديق بريسكوت وهو من أتى به لِيعملَ تقريره. وسبق لجيب نفسه أن أعدَّ تقرير مراقبة كُلّه تقريبًا انتقاد لتغطية (بي بي سي) لحرب غزَّة. ولطالما طالَب كثير من المعنيين بالإعلام في بريطانيا بإقالة «جيب» من مجلس إدارة (بي بي سي) منذ عيَّنه فيه رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون. وذلك لارتباطه بـ»إسرائيل» ومصالحها، خصوصًا علاقته بصحيفة «ذا جويش كرونيكل» المواليَّة لـ»إسرائيل».
من المثير للسخرية أن تتركز الانتقادات لـ(بي بي سي) على تحيزها ضدَّ «إسرائيل»، رغم أنَّها مثلها مثل بقيَّة الإعلام الغربي تتبنى تقريبًا بشكلٍ كامل الرواية «الإسرائيليَّة» عن كُلِّ ما يحدث في منطقتنا من قَبل الحرب على غزَّة حتَّى. وتلك في تصوُّري هي أزمة (بي بي سي) الحقيقيَّة الَّتي جعلت منها فريسة سهلة للنَّيل منها من قِبل مناوئيها مِمَّن لا يريدون إعلامًا مستقلًّا في بريطانيا. ففي السنوات الأخيرة تخلَّت الهيئة إلى حدٍّ كبير عن حياديَّتها وموضوعيَّتها تحت ضغط الإعلام اليميني والسياسيين في السُّلطة. وتوالى عليها مديرون يقدِّمون إرضاء السُّلطات على حقِّ المواطن العادي الَّذي يدفع تمويل الهيئة في الحصول على المعلومة الدقيقة والرأي الحُر غير المتأثر بانحياز لهذا الحزب أو ذاك أو «الخائف» من غضب السُّلطة. وبدأ مسار التدهور في مهنيَّة وموضوعيَّة ومكانة المؤسَّسة مع تولِّي جون بيرت إدارتها في التسعينيَّات من القرن الماضي، وهو الَّذي عمل مستشارًا لتوني بلير حتَّى اليوم الأخير له في الحكومة. مع ذلك، كانت استقالة مدير (بي بي سي) جريج دايك في 2003 آخر علامة على استقلاليَّة المؤسَّسة وحياديَّتها وإعلائها للصالح العام. فقد بثَّ أحَد صحفيي (بي بي سي) وقتها (أندرو جليجان) تقريرًا عن كذب ادعاء بلير بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقيَّة كمبرِّر لحرب غزو واحتلال العراق. وكان مصدر جليجان خبير أسلحة الدمار الشامل ديفيد كيلي، الَّذي وجد مقتولًا فيما بعد، ووصف الحادث بأنَّه «انتحار». وتحت ضغط الحكومة والإعلام المروِّج للحرب استقال جليجان واستقال دايك رافضًا الاستمرار في ظل ضغط حكومي.
منذئذ، توالى على الهيئة مديرون يفكرون فيمن عيَّنهم وليس الجمهور العريض الَّذي يدفع رواتبهم وبعضهم بعيد عن المهنيَّة والحياد. بل إنَّ أحدهم، وهو مارك تومسون، كان يزايد على الحكومة أحيانًا بتصريحات لا يجوز أن يطلقها أصحاب المهنة كاتهاماته لإيران إرضاءً لـ»إسرائيل». ذلك في الوقت الَّذي كان الصحفيون المهنيون الأكْفاء في (بي بي سي) يحاولون الحفاظ على المهنيَّة والموضوعيَّة في تغطياتهم. لا يعني ذلك أنَّ (بي بي سي) وصحفيِّيها منزهون عن الخطأ، بل والهوى أحيانًا، لكنَّ المؤسَّسة في الأغلب ما زالت تحتفظ بقدر من المهنيَّة ميَّزها إلى حدٍّ ما عن بقيَّة الإعلام الخاص المحكوم بمصالح أصحابه وليس المصلحة العامَّة. لكنَّ تراخي الإدارات المتتالية في الحدِّ من الفساد والمحسوبيَّة داخل المؤسَّسة وممالأتهم للسياسيين نالت كثيرًا من مكانة (بي بي سي) حتَّى لدى الجمهور البريطاني الَّذي يدفع تكاليفها من جيبه. مع ذلك، يظل الشَّعب البريطاني في أغلبه حريصًا على تلك المؤسَّسة واستقلاليَّتها، وإن كانت أصواتهم ليست بعلوِّ صوت اليمين واليمين المتطرف الَّذي ينصب المشانق الآن لآخر رموز بريطانيا العريقة. قد لا تنهار (بي بي سي) أمام هذه الحملة، لكنَّها بالتأكيد ستخرج منها أضعف كثيرًا ما لم تتولاها إدارة تُعلي من المصلحة العامَّة على حساب إرضاء السياسيين.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري