الخميس 13 نوفمبر 2025 م - 22 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

الحضارة العربية الإسلامية والثقافات الأجنبية ـ2

الحضارة العربية الإسلامية والثقافات الأجنبية ـ2
الأربعاء - 12 نوفمبر 2025 10:40 ص

أ.د. محمد الدعمي

20


إذا ما خدم «بيت الحكمة» العباسي ببغداد في نقل علوم وآداب الأُمم الأخرى إلى العربيَّة، فإنَّ أصداءه قد برزت كذلك في عددٍ من «دور الحكمة» في القاهرة الفاطميَّة، زیادة علی محاكاة له في المغرب العربي في حقبات تاريخيَّة تالية، ناهيك عن بيت الحكمة القائم اليوم في بغداد، وقد تأسس قَبل بضعة عقود.

إلَّا أنِّي أعتقد بأنَّ أهمَّ مفصل في تاريخ هذا الموضوع قد تحقق في القاهرة بعد سقوط بغداد على أيدي المغول، بقيادة بعد «هولاكو خان»، الَّذي أحال لون الماء في نهر دجلة إلى اللون الأزرق بسبب ما غمره في مياه هذا النهر من المخطوطات والكتب العظيمة !

لنلاحظ في هذا السياق أنَّ الوالي الألباني المولد الَّذي حكم مصر بعد عددٍ من القرون، باِسْمِ محمد علي باشا، قد خطا خطوةً مهمَّة في هذا الحقل بسبب تطلُّعاته. الاستقلاليَّة المضادَّة لهيمنة الدولة العثمانيَّة في الأستانة: فقَدْ قرَّر هذا الحاكم المصلح المُهمُّ تأسیس «مدارس» (كُليَّات) في مصر لدعم مشروعه النهضوي، ومنها مدرسة عسكريَّة لتخريج الضباط لرفد جيشه العرمرم الَّذي أخذ يعظم ويتَّسع بسرعة أخافت خلفاء بني عثمان فيما بعد. زدْ على ذلك ملاحظته بأنَّه لا يُمكِن أن يستقلَّ ويقوى حُكمه دون الإفادة من علوم الأوروبيين وأنظمتهم الإداريَّة المتطورة؛ لذا فقَدْ فكَّر في تأسيس مدرسة أخرى باِسْمِ «مدرسة الألسن» بمعنى كُليَّة لُغات لتعليم المصريين اللُّغات الأوروبيَّة على سبيل ابتعاث البعثات العلميَّة إلى أوروبا حقبة ذاك.

وكانت هذه المدرسة، بما خرَّجته من عقول متدربة تدريبًا لُغويًّا رفيعًا باللُّغات الأوروبيَّة هي حجر الزاوية لمشروعه العظيم الَّذي جعل الأستانة (إسطنبول) عاصمة العثمانيين ترتجف منه، واليًا، ومن تطلُّعاته التوسعيَّة !

خدمت هذه المدرسة محطَّة مهمَّة في تاريخ اكتساب الثقافة العربيَّة نوافذ مهمَّة على الثقافات الأجنبيَّة (الأوروبيَّة بخاصَّة) بفضل ما قدَّمته من خرِّيجين خدموا ثقافتنا بعد أن أتقنوا اللُّغات الأوروبيَّة كالفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة والإنجليزيَّة.

كما وقد أدَّت البعثات التبشيريَّة في تلك المرحلة والمراحل التَّالية عَبْرَ بلاد الشام والموصل ومصر أدوارًا مهمَّة للغاية بتأسيس المدارس الأجنبيَّة الَّتي أدَّت أدوارًا أساسيَّة في تعليم الشباب والشابات العربيَّات اللُّغات الأوروبيَّة كخطوات أولى لحركة النهضة العربيَّة الإسلاميَّة حقبة ذاك.

والحقُّ، فإنَّ لمحمد علي باشا وما تلا من بعثات تبشيريَّة أدوارًا تشكيليَّة لا يُمكِن تجاوزها في تشكيل وتكوين أجيال من الشبان في سوريا ولبنان ومصر، من هؤلاء القادرين على ترجمة عيون الكتب الأجنبيَّة، الأوروبيَّة خصوصًا، إذ خدموا شروطًا مسبقة لحركة النهضة العربيَّة الإسلاميَّة التالية الَّتي قادت إلى ظهور أساطين هذه النهضة، من أمثال: رفاعة رافع الطهطاوي ونور الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، من بَيْنِ آخرين!

أ.د. محمد الدعمي

كاتب وباحث أكاديمي عراقي