الخميس 13 نوفمبر 2025 م - 22 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : هدنة معلقة على أنفاس الأطفال

الأربعاء - 12 نوفمبر 2025 04:30 م

رأي الوطن

30


رغم ما يُسمَّى هدنة إنسانيَّة، تُواصِل غزَّة احتضان الموت في صمتٍ ثقيل، كأنَّ الهدنة لم تكُنْ سوى استراحة قصيرة بَيْنَ موجتيْنِ من الألَم. فالأطفال، الَّذين كان يُفترض أنْ تحميَهم القرارات الدوليَّة، يولدون اليوم بلا حليب وبلا طعام وبأجسادٍ تذبل تحت الحصار، فيما تقف شاحنات المساعدات عِندَ المعابر كرمزٍ جديد لعجز العالم! ويُعبِّر تحذير «اليونيسف» من احتجاز أكثر من تسعمئة ألف عبوة حليب أطفال عن عجز المنظومة، ويكشف أنَّ الاحتلال لا يوقف حربه، فهو يبدِّل أدواتها. وعليه، فإنَّ الموت لا يأتي الآن بالقنابل فقط، وإنَّما بالمنعِ المتعمَّد للغذاء والدَّواء، وبسياسة تجويع تستهدف الحياة ذاتها.. وما بَيْنَ جدران المستشفيات الَّتي تفرغ من الأدوية، وأحضان الأُمَّهات الَّتي جفَّ فيها الحليب، تظلُّ الطفولة في غزَّة شاهدةً على جريمة تمارس ببطء ووعي كامل، في عالم فقَدَ حسَّه الإنساني قَبل أنْ يفقدَ صوته.

تبدو الأرقام الَّتي تتحدث عنها الأُمم المُتَّحدة شهادات رسميَّة على مأساة لا تتوقف، فخَلْف كُلِّ شاحنة تمرُّ عَبْرَ المعابر طفل ينتظر جرعة حليب أو دواء أو لقاح، والحديث عن دخول أكثر من خمسة آلاف شاحنة خلال شهر لا يعكس حقيقة ما يجري؛ لأنَّ ما يمنع أكبر ما يسمح به، وما يدخل لا يصل إلى مَن يحتاجه. والقيود الَّتي يفرضها الاحتلال على المواد الحيويَّة، من أطقم الولادة إلى الثلاجات العاملة بالطَّاقة الشمسيَّة، تُحوِّل العمل الإغاثي إلى سباق ضدَّ الزمن في أرض مغلقة، وبات وضع فِرق «اليونيسف» والصحَّة العالميَّة، وتطعيم آلاف الأطفال ضدَّ أمراض يُمكِن علاجها بسهولة «محلَّك سِر»، بَيْنَما تظلُّ مستلزمات أخرى محتجزةً خَلْفَ الأسوار، الأمر الَّذي غدَتْ فيه غزَّة اليوم في مواجهة حصار رقمي تُديره البيروقراطيَّة العسكريَّة، حيثُ تتحول البيانات إلى وسيلة لتجميل الجريمة، ويتحول الأمل إلى انتظار طويل على بوَّابات لا تفتح.

لقَدْ تحوَّلتِ المساعدات الإنسانيَّة في غزَّة إلى أداةِ ابتزازٍ سياسي، تُمارَس من وراء الأسوار؛ إذ يختار الاحتلال الصهيوني متى يسمح بدخول الغذاء ومتى يمنعه، لِيتحولَ الخبز إلى ورقة تفاوض، والحليب إلى سلاح ضغط! فالتجويع أصبح أحَد أسلحة الحرب المعتمدة لإخضاع النَّاس وإذلالهم عَبْرَ إفراغ الحياة من مُقوِّماتها الأساسيَّة، هذه السياسة الَّتي تقوم على خنق المَرافق الصحيَّة، ومنعِ الطَّاقة عن محطَّات المياه امتدادًا لعقيدة قديمة تَعدُّ الحصار وسيلةً للسيطرة على الوعي والقرار.. وفي الوقت الَّذي ترفع فيه شعارات حماية المَدَنيين، تُدار حرب باردة ضدَّ الأمعاء الفارغة تُساق فيها الطفولة إلى الجوع، كما كانت تُساق بالأمس إلى الخوف! ومن رَحِم هذا الألَم تتكوَّن ذاكرة جماعيَّة تُدرك أنَّ الاحتلال الصهيوني يقتل الإنسان مرَّتيْنِ؛ مرَّة حين يقصفه، ومرَّة حين يحرمه من الحياة.

إنَّ غزَّة اليوم تُمثِّل مرآة العالم، تعكس التناقض بَيْنَ ما يُقال وما يُفعل، وبَيْنَ القوانين الَّتي تُكتب والضمائر الَّتي تغفو على المأساة؛ لذا فإنَّ استمرار احتجاز المواد الحيويَّة رغم التحذيرات الأُمميَّة يضع المُجتمع الدولي أمام امتحان أخلاقي حادٍّ.. فالصَّمت أمام تجويع الأطفال جريمة تُرتكب على مرأى من المؤسَّسات الَّتي يُفترض أنْ تحميَهم، والأرقام الَّتي تتحدث عنها المنظَّمات لا تُعبِّر عن الحياة، والحقيقة تسكن في وجوه الأُمَّهات اللَّاتي يودِّعنَ أبناءهنَّ جوعًا، وفي عيون الأطفال الَّذين ينتظرون وجبةً لا تصل. والعدالة الإنسانيَّة تُقاس بالفعل القادر على إنقاذ ما تبقَّى من براءة الطفولة، ومن تحت الرُّكام تصعد غزَّة كصوت يذكِّر العالم بأنَّ القانون بلا ضمير لا يُنقذ حياةً، وأنَّ مَن يصمت على الجوع يُشارك في صناعته، وأنَّ الإنسانيَّة حين تتخلى عن الأطفال تفقد معناها بالكامل.