السبت 08 نوفمبر 2025 م - 17 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

فـي بلاد «مانديلا» «إما أن تكون حرا أو لا تكون» «2ـ7»

فـي بلاد «مانديلا» «إما أن تكون حرا أو لا تكون» «2ـ7»
السبت - 08 نوفمبر 2025 10:23 ص

سعود بن علي الحارثي

10


ثانيًا: «رحلتي الطويلة من أجل الحُريَّة».

في الساعة الرابعة فجر السبت الرابع من أكتوبر 2025م، حلَّق بنا الطائر الإثيوبي في سماء مسقط وقِبلته مطار «أديس أبابا»، كمرحلة أولى، ومنه مباشرة إلى مدينة «كيب تاون» بجنوب إفريقيا المحطَّة الرئيسة لهذا التطواف... وصاحبي في سفري إلى جانب زوجتي، وابني محمد وبناتي خديجة وثريا ودعاء، كِتاب شيِّق غني بمعاني وقِيَم الكفاح والنضال والحُريَّة، اخترته بعناية متوافقًا مع وجهة وغاية هذا التطواف، عنوانه «رحلتي الطويلة من أجلِ الحُريَّة»، لنيلسون مانديلا، يروي فيه «من خلال تجربته الشخصيَّة المراحل النضاليَّة الَّتي خاضها شَعبه ضدَّ سياسة التمييز العنصري القائمة على هيمنة البيض...»، الكِتاب بحقٍّ، غني بالمحتوى، مُثير للإدهاش، مُلهِم للقارئ، مُشبع بفصول الحياة في أدوارها الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة والدِّين، وتفاصيل برنامجها اليومي، مُتخم بمشاهد وصوَر محركة للمشاعر عن الأعراف والقِيَم والطقوس والعادات اللَّصيقة المترسِّخة في جذور وثقافة القبائل والشعوب الإفريقيَّة، والَّتي تحتل في هذا الكِتاب محورًا مهمًّا من تاريخ جنوب إفريقيا، الَّتي عاشها نيلسون مانديلا. وفي فصوله الأخرى، الَّتي تُشكِّل الجزء الأكبر والأهم في «رحلتي الطويلة من أجلِ الحُريَّة»، خصَّصها مانديلا، لرواية صفحات النضال المُشرِّف والتضحيات الإنسانيَّة المَجيدة الَّتي قدَّمها شَعب جنوب إفريقيا، من أجلِ نيل الحُريَّة والمساواة. ويروي في جانب منها حياته الطويلة في السجون والمطاردة والتخفي، وأساليب وطُرق المقاومة، وما صحبها من نشاطات وتنظيرات ونقاشات وخيارات بَيْنَ المقاومة المُسلَّحة والسلميَّة، والَّتي توَّجَها هذا الشَّعب العظيم بنيل تطلُّعاته وتحقيق أهدافه المشروعة، وتنصيب مانديلا نفسه رئيسًا لجمهوريَّة جنوب إفريقيا، في لحظة تاريخيَّة فاصلة شكَّلت نهاية رحلة طويلة من الصراع بَيْنَ الظلم والعدالة، العبوديَّة والحُريَّة، الاستعمار والتحرير... «قليل من الناس مَن يذكر الـ(3) من يونيو 1993م، ولكن ذلك اليوم كان منعطفًا حاسمًا في تاريخ جنوب إفريقيا، بعد موافقة المؤتمر متعدِّد الأحزاب بالتصويت على تحديد موعد لأول انتخابات عامَّة غير عنصريَّة قائمة على مبدأ حق التصويت للجميع، وهو الـ(27) من أبريل 1994، لأول مرَّة في جنوب إفريقيا سوف يتَّجه السود الغالبيَّة إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم واختيار ممثليهم... وفي مساء الثاني من مايو ألقى دو كليرك خِطاب تنازل اتَّسم بالأدب والاحترام. فبعد ثلاثة قرون من الحُكم أقرَّت الأقليَّة البيضاء بالهزيمة وسلَّمت السُّلطة للأغلبيَّة السوداء»، يا له من نصر عظيم، وتحوُّل تاريخي جسيم، قابلته المُجتمعات الإنسانيَّة العاشقة للحُريَّة بإجلال وتبجيل وتقدير عظيم واحتفاء لا مثيل له لتضحيات السود في جنوب إفريقيا. يتحدث نيلسون مانديلا عن الحُريَّة بكلمات نابعة من أعماق قلبه، وبمعانٍ ودلالات انطلقت من واقع خبراته وتجاربه في قيادة العمل النضالي، وفي صياغة دقيقة مختصرة ولكنَّها مفعمة بالمحتوى، «إنَّ الحُريَّة لا تتجزأ. فالأغلال الَّتي تقيِّد واحدًا منَّا تقيِّدنا جميعًا، والأغلال الَّتي تقيِّد قومي هي أغلال تقيِّدني كذلك... فالَّذي يسلب إنسانًا حُريَّته يصير هو نفسه أسيرًا للكراهية والحقد، يعيش وراء قضبان التعصب وضيق الأُفق... لقد أصبح تحرير الظالم والمظلوم رسالتي في الحياة منذ اللحظة الأولى الَّتي تخطَّيت فيها عتبة السجن...». وفي كُلِّ صفحة من صفحات النضال الجنوب الإفريقي، تتجلى إضاءات من مشهد النضال الفلسطيني، الَّذي تعجز الكلمات عن توصيفه، ومنعطفات من تاريخ الصراع بَيْنَ الحقِّ والباطل، وملامح كئيبة وأوقات سوداء لأحجام الظلم وسلسلة المذابح والقهر والتنكيل الَّتي أصابت وصحبت مَسيرة الشَّعب الفلسطيني لأكثر من قرن من الزمان، أفما آنَ لليل فلسطين أن ينكشف عن شمس الحُريَّة على غرار جنوب إفريقيا...؟ عسى أن يكُونَ ذلك قريبًا. في الساعة السادسة والنصف صباحًا، هبط بنا الطائر المحلِّق بسلام، في مطار بلاده «بولي» بأديس أبابا، النشط بالحركة، المريح في سعته وعمارته، والَّذي يستوعب سنويًّا حوالي خمسة وعشرين مليون مسافر، ويحظى بشركة طيران ناجحة، هي الأكبر في إفريقيا، وحققت، في 2023م، أرباحًا تجاوزت سبعة مليارات دولار، ونقلت أكثر من سبعة عشر مليون مسافر، في عالم يشهد نموًّا متسارعًا في قِطاعَي السفر والسياحة، وباستثناء طيراننا الوطني، الَّذي ما زال يعلن عن خسائره المتراكمة، نكتشف أنَّ مُعْظم شركات النقل الجوِّي تُحقِّق أرباحًا ضخمة تسهم في الناتج المحلِّي. يجدر بالذِّكر أنَّ إثيوبيا قرَّرت اللحاق بركب الدول الَّتي تستثمر في السياحة وتُعنى بالترويج لمفردات الجَمال الَّتي تمتلكها، والمعالم والمواقع الرائدة، المُحفِّزة والمُشجِّعة على زيارتها، وتقديم واجهة البلاد للعالم بأُسلوب لافت ومُدهش، ببناء مطار عالمي عصري، تمزج عمارته بَيْنَ روح الحداثة وأصالة وغنى التقاليد والثقافة والتاريخ... بتكلفة تقدَّر بستة مليارات دولار، ليصبح الأكبر والأفخم في إفريقيا، وبقدرة استيعاب تصل لمئة مليون مسافر في السَّنة، في منطقة «بيشوفنو»، على بًعد أربعين كيلومترًا جنوب شرق أديس أبابا، ممتدًّا على مسافة خمسة وثلاثين كيلومترًا، ومن المتوقع افتتاحه بعد أربعة أعوام. وصلنا مطار «كيب تاون»، بحمد الله وفضله، الساعة الخامسة عصرًا، فقد اقتصر تطوافنا في جنوب إفريقيا ـ بعد المناقشات وتبادل الرأي ـ على منطقتين فقط؛ لأنَّهما الأجمل والأكثر جذبًا ومقصدًا سياحيًّا، وحشدًا للمعالم والمواقع السياحيَّة، ومستوى ومؤشرات الأمن فيهما مطمئنًّا مقارنةً بجوهانسبرج العاصمة، كما أنَّ اتساع برامج التطواف لثلاث مُدن أو أكثر سوف يفوّت علينا فرص استطلاع مناطق مهمَّة جدًّا في كُلٍّ من «كيب تاون»، و»جاردن روت»، المشمولتين في برنامجنا السياحي، والمسافات بَيْنَهما وبَيْنَ العاصمة تطلب سفرًا بالطائرة، ولن تكُونَ زيارتها إلَّا تكرارًا لذات المقاصد والوجهات المتمثلة في الغابات والأرياف والأسواق والمحميَّات... فاكتفينا بهما، وكان قرارًا صائبًا كما استبان من واقع التجربة... الحركة في مطار «كيب تاون»، هادئة والإجراءات تتمُّ بانسيابيَّة واحترام، والسَّائح مرحَّب به يحظى من موظفي المطار بالتقدير وملامح ودودة ضاحكة تعلن عن الوعي بأهميَّة السياحة وشَعب قدَّر قِيمة الزائر لبلاده ودَوْره في إنعاش هذا القِطاع الحيوي الَّذي يُسهم في نُمو الاقتصاد وتوفير العمل.... «يتبع».

سعود بن علي الحارثي

[email protected]