خلال الأسبوع الماضي تحوَّلت مدينة الفاشر السودانيَّة إلى مرآةٍ دامية لمأساة حرب السودان حيثُ قتل في الفاشر وحدها بدم بارد ـ وحسب مفوضيَّة العون الإنساني التابعة للأُمم المتحدة ـ أكثر من ألفي شخص معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، معلقة بقولها «الأرواح تنتزع بوحشيَّة، ولا نزوح آمن ولا مساحة للنجاة».
إنَّه حقًّا مشهد تقطعت له قلوب مَن لم تزل لهم قلوب بشر، في وقت تبلَّدت فيه المشاعر الإنسانيَّة منذ أحداث غزَّة الفلسطينيَّة مرورًا بالفاشر السودانيَّة فتحولت فيهما الخيام المهترئة إلى أجداث على سطح الأرض لم تجدْ مَن يغطِّيها بالتراب تحت سماوات رماديَّة تخيِّم عليها عدم المبالاة.
فقد أبيدت أحياءٌ كاملة، بل قصفت المستشفيات وجفّف ما بقي منها من الدواء والأطباء، وهجر المدنيون ديارهم، فتعرى بذلك صمت المُجتمع الدولي، فظلَّ يداري خجله بمواصلة تسويق عباراته الرنانة على شاكلة «القلق العميق» و»ضبط النفس» و»الممرات الإنسانيَّة الآمنة» و»حماية المدنيين».
بهذه العبارات المكررة والمملة اختزل المُجتمع الدولي الكارثة الإنسانيَّة في جملٍ إنشائيَّة أمام الكاميرات وذلك في لحظات توافق مخجل بقاعات مجلس الأمن الَّذي مارس متحدثوه أسلوب النقد الذَّاتي فعجز المجلس عن توجيه إدانة واضحة وصريحة لمَن يرتكب هذه الفظائع.
في ظلِّ هذه الكارثة الإنسانيَّة يكتسب الاقتباس من مقولة ألبرت آينشتاين معناه عندما قال في عصره «العالم لن يدمرَه مَن يفعلون الأذى، بل يتم تدميره بسبب مَن يقفون متفرجين دون أن يفعلوا شيئًا».
فقد أدرك آينشتاين وحتَّى فلاسفة عصرنا المعاش ومنظريهم أنَّ العنف في ذاته ليس أعظم ما يهدِّد الإنسانيَّة، بل عدم المبالاة الجماعيَّة الَّتي تتيح له أن يتمددَ ويترسخ هي المهدِّد الأكبر للإنسانيَّة.
ما يجري في السودان اليوم ـ وخصوصًا ما جرى بمدينة الفاشر المنكَّل بأهلها ـ ليس صراعًا فحسب، بل اختبار أخلاقي لعصرٍ يدَّعي التحضر. فبَيْنَما يتم ارتكاب المجازر أمام عدسات العالم وبكُلِّ بجاحة، يكتفي المُجتمع الدولي بإدارة الأزمة وليس بحلِّها، وكأنَّ معاناة ملايين المدنيين شأنٌ داخلي لا يستحق سوى بيانات الإدانة.
بهذا السلوك غير الإنساني تجاه المعاناة الإنسانيَّة يتحول الصمت إلى شكلٍ من أشكال التواطؤ والتغاضي إلى جريمةٍ ثانية تُضاف إلى سجل المأساة، حيثُ أصبحت حرب السودان مثالًا صارخًا على ما يُمكِن تسميته «بالعنف الممنهج بالصمت».
فالمأساة لم تَعُدْ فقط في مَن يضغط الزناد بلا رحمة بالمدنيين من الأطفال والنساء، بل في مَن يختارون الانتظار بصمتٍ مترف وببيانات مُبهمة دون إدانة صريحة وواضحة، فهو صمت يوصم المُجتمع الدولي ومنظَّماته الأمميَّة بالمشاركة في المأساة، ولكنَّها مشاركة ببطءٍ وبوقارٍ مفضوح وبعباراتٍ دبلوماسيَّة مصقولة.
إنَّ ما يحتاجه السودان اليوم ليس فقط ضمان وصول المساعدات الإنسانيَّة، ولكن إلى ضميرٍ عالمي يُعِيد تعريف المسؤوليَّة الأخلاقيَّة في زمنٍ يتكاثر فيه الكلام.
فقد فشل المُجتمع الدولي بمَن فيه السودانيون أنفسهم المنكوبين بنار الحرب منذ اندلاع القتال في إنتاج مسارٍ حقيقي وملموس للسلام في السودان، فتكشف بذلك فقدان الإنسانيَّة لقدرتها على الغضب، في حين باتت القِيَم الَّتي طالما تباهت بها المؤسَّسات الدوليَّة مجرّد ديكورٍ أخلاقي يتم استحضاره وقت المؤتمرات، ويغض البصر عنه حين تبدأ المذابح.
وعلى ضوء هذا الفشل، تحولت المبادرات إلى سباقٍ سياسي أكثر من البحث عن العدالة عَبْرَ محاكمة مَن قتل النفوس وسلب ونهب واغتصب الأعراض، فاتسعت دائرة النزوح وتنوعت الأمراض، فتعمق بذلك معنى ما طرحه آينشتاين للتأكيد على أنَّ الصمت ليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة. ولكن رغم تعقُّد المأساة يظل الأمل أقوى في أنَّ الشَّعب السوداني قادر على تجاوز الأزمة وعلى إعادة بناء وطن الشموخ بكُلِّ عزَّة واقتدار.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن»