مسقط ـ العُمانية: (العدسة لم تعُد مُجرد زجاجة تكبّر المشهد، بل نافذة تمتدّ إلى رؤيتي الداخليّة للعالم) بهذه الكلمات يُشير المصوّر الضوئي علي بن حمد الغافري إلى ما أدركه حينما حصد على الميداليّة الذهبيّة في بينالي الشباب للتصوير الضوئيّ كأوّل شاب عُماني ينال هذا الشرف، ويُضيف: (من هُناك، بدأت أحلامي تتحققّ وأيقنتُ أنّ الكاميرا ليست أداة فحسب، بل جسرٌ يربطني بالنّاس وحكاياتهم، وتوطّد هذا الجسر حين سافرت لتغطية ثقافات مُختلفة)، فلم تتوّقف أحلامُ علي عند ميداليّة ذهبيّة، بل امتدّت لتصنع أمجادًا وتخطّ حكايات مُستمرة. بداية الحكاية تعود لـ 13 عامًا الى الوراء، عندما تمكّن (الغافري) من تشكيل مشروع جماعة التصوير الضوئيّ بكُليّة كالدونيان الهندسيّة آنذاك، كأوّل مُحاولة واعية للتركيز على الوعي البصريّ، حيثُ يقول بثقة:لم تكُن تلك الفكرة لنشاط عابر في الفضاء الأكاديميّ التقنيّ، بل لإضافة بُعد إنسانيّ وثقافيّ للحياة الجامعيّة، وأيضًا بسبب دافع الغيرة الإيجابيّة من المؤسّسات الأخرى، فأكّد (علي) أنّ ولادة الجماعة جاءت من شغفٍ فرديّ وكبُرت بحلمٍ جماعيّ. ولأنّ الحكاية لا تقتصر على الحُلم، إذن لابُدّ أن يكون للبيئة أثرٌ خفيّ في التأثير على تشكيل الذائقة لدى حامليّ الكاميرا وصاحِبيّ هِبة تكوين الصورة، وهُنا يوضّح الغافري: بلا شّك أنّ تضاريس سلطنة عُمان بين الجبال والبحار والقرى منحتني حسًّا بصريًّا مُرهفًا قائمًا على تباين واضح بسبب تنوّع تضاريس بلادي، وإنّ كُل صُورة تحمل بصمةً جغرافيّة لأنّ ذاكرة المُصوّر الأولى تحمل صورًا عن موطنه مهما ابتعد عن أرضه، وهذا ما يخلُق التباين بين كل فنّان وآخر.
وحول عُمق البيئة العُمانيّة مرورًا بمحطّات ثقافيّة عالميّة، يُكمل علي حكايته في الصورة الضوئيّة متنّقلًا بين محطّاتٍ مُختلفةٍ حول العالم، ليُشكّل خارطة قاموسه البصريّ والفكريّ، وفي هذا السياق يقول: شعرتُ أنّ الأماكن ليست مُجرد موضوعات للكاميرا، بل كانت تستحوذ عليّ وتُعيد تشكيل نظرتي، فلم يعد علي يلتقطُ صورًا للأمكنة، بل كانت الأمكنة هي من تلتقطه.
بدأت مسار رحلته من الأردن، فوصفها قائلًا: لقد فتحتُ عن طريق العدسة نافذة لاستكشاف التاريخ والحضارة العريقة، وأدركتُ أنّ لكُل مكان قصّته الخاصّة التي تترك أثرها على الرؤية، ثُم انتقل بعدسته الى زنجبار، فجسّدها بقوله: لمستُ بصمات التاريخ العُماني في الأسواق والأزقّة القديمة، واكتشفتُ كيف تمتزج الثقافات في تفاصيل الحياة اليوميّة، وصولًا إلى إثيوبيا التي أثارت إعجابه فصاغ صورتها بحديثه: الألوان الحيّة والطقوس التقليديّة والمهرجانات الشعبيّة جعلتني أُعيد التفكير في علاقتي بالضّوء والظّل والحركة داخل الإطار، ثمّ إلى الصين ومنغوليا فذكر: التنوّع بين المُدن الصّاخبة والطبيعة الشاسعة منحني منظورًا أوسع للزمان والمكان، وجعلني أفهم أنّ الصّورة ليست مُجرد نقل للمشهد، بل وسيلة لفهم الإنسان والثقافة والمكان، وحين لاحت في الاُفق رحلة العودة إلى الوطن، عاد علي بعدسته وقد بانت آثار الرحلّة عليه ليُعبّر عنها بكلماته: أصبحتُ أرى بلدي بعينٍ مُختلفة، وألتقطُ ما قد يغفل عنه الآخرون وأُعيد اكتشاف الجمال في المألوف.
وحين الولوجٍ إلى تفاصيل الصّورة، ومدى انعكاس رسالة المصوّر التي يقدّمها من خلالها للعالم، يبيّن الغافري قوّة العلاقة بين الضّوء والظّل: ليسا مُجرد عناصر تقنيّة، بل لغة صامتة تحمل بين ثناياها روح المشهد، فالظّل يكشف ما هو خفيّ ويمنح العُمق، والضّوء يُضيء الرؤية ويبرز التفاصيل، فيُشير إلى أنّ الصّورة الحقيقيّة تتجلّى حين يتناغم الضّوء مع الظّل في انسجام ليُصبح الإطار أكثر من مُجرد صورة.
ويستكمل علي حكايته ليؤكّد أنّ الصّورة ليست مُجرد وثيقة اللّحظة، بل تتجاوز ذلك لتُصبح عملًا فنيًّا يحمل روحًا، أو رُبما سؤالًا مفتوحًا، فيُوضّح بحديثه: يأتي ذلك حين ينجح المصوّر في خلق روح تحفّز المُتلقي على التوقّف والتّأمل، تلك ليست مُجرد مهارة في الإطار أو تحكّمًا بالضّوء، بل قدرة على استحضار طبقات خفيّة لا تراها العين إلا حين يلمسها القلب، من خلال هذا التفاعل بين ما تراه عين المصوّر ويلمسه بقلبه، وبين ما يملكه من مهارة بعدسته الحاضرة على يده، تتحوّل الصّورة إلى تجربة إنسانيّة وفنيّة تطرح أسئلة مفتوحة، وتترك أثرًا مُستمرًا بعد إغلاق العدسة.