لقد تربى نبي الله منذ نعومة أضافره في ظل الحنية المباشرة من الله عز وجل، تلك التربية لقنته ما يحتاج إليه في نبوته في تعامله مع الناس، وما تحتاج إليه رسالته العالمية في طريقة إيصالها، فتربى (عليه الصلاة والسلام) أول ما تربى على الخلق الرفيع والتعامل الحسن، في أحضان بيت عبد المطلب، ومضارب بني سعد، والوسط المكي المحافظ على مكارم العرب الأصيلة الموروثة من تعاليم إبراهيم الخليل، وبين ذا وذاك كانت الأخلاق تلهم من قبل خالق الأخلق في لتبت في تربته الدمثة، فتحيا بها روحًا منقطعة النظير ترعى القيم القيمة في مروجه الغناء. ولما استلم نبي الله رسالة ربه، أمره الله تعالى بمكارم الأخلاق من خلال آياته المبينة، فقام بها النبي ورعاها خير قيام، بل ارتقى بها ليلامس مستواها العظمة، فمثلًا عندما أمره الله تعالى في العهد الأول بالرحمة من قوله:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء ـ 107)، عرج النبي بهذه الرحمة ليصل إلى ضعفها من التحلي:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران ـ 159)، ثم تابع مشوار تحسينها في نفسه حتى وصل بها إلى أوج سموها فوصفه الله تعالى في آخر عهده بالرؤف الرحيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة ـ 128)، فالرؤوف الرحيم بصيغة المبالغة وهي أرق وألين وأشدّ وأبلغ وأمعن في معناها المتحقق في نفسية نبي الله (صلى الله عليه وسلم) فيما وصل إليه من مستوى عظيم. وفي هذا المساق السلوكي في هذا الدرس والدروس التي تليه، نتدارس أخلاق النبي لنرى من خلال تطبيقاته المكانة الحسنى التي وصل بها عند حبّ ربه، ومن خلال التأسي به نستطيع أن نرتقي بأنفسنا إلى أفضل المستويات في مكارم الأخلاق. وقد وُصِفَ النبيُّ في القرآن بأوصاف جامعة للأخلاق الحميدة، وكان وصفه بها عظيم المنزلة وتلك الأوصاف هي: (1) (الخُلُق العظيم)، فقد قال الله عز وجل:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم ـ 4)، أي: أن النبي قد وصل أعلى المراتب المثلى في الخلق حتى صار خلقه عظيمًا، (2) (القدوة الحسنة)، فاتصاف النبي بأعلى مراتب الخلق لكي يكون نموذجًا تطبيقيًا، ونبراسًا يقتدي به الصحابة والناس جميعًا:(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب ـ 21)، (3) (رحمة للعالمين)، قال الله عز وجل:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء ـ 107)، فالرحمة هي الأساس الذي نهج عليه النبي، والرحمة وما تحمله من معاني الشفقة والرأفة والحرص على الناس، جعلهم ينتمون إليه بأنفسهم وأرواحهم وقلوبهم، ممتثلين لأوامره مُلبين لندائه، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة ـ 128)، (4) (المربي الأول)، قال الله عز وجل:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة ـ 2)، «كان النبي مزكّيـًا لمن آمن به واتبعه واقتدى به واهتدى بهدية، بقوله وعمله وأخلاقه، والتزكية هي التطهير من أدناس الأعمال والأخلاق السيئة والنيات الفاسدة والعقائد والأفكار الباطلة» (الأخلاق الإسلامية عبد الرحمن حنبكة).
قدّر الله تبارك وتعالى لنبيه أن يكون يتم الأب، ثم يتيم الأم، لتكون تربيته مباشرة من الله عز وجل، بواسطة شخصيات متنوعة الاحتضان، وهذا دليل على عناية الله به العناية الخاصة، قال النبي عن نفسه:(أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وهذا يرفع درجة إيماننا بكمال خلق نبينا أنّ خلقه ربانيًا من مورده الصافي، ويتبين لنا معالم هذه التربية من سورتي (الضحى والشرح)، أولًا:(سورة الضحى)، من اليتم إلى الإيواء، قال الله تعالى:(ألم يجدك يتيما فآوى) (الضحى ـ 6)، ومن الضلال إلى الهدى، قال الله تعالى:(ووجدك ضالًا فهدى) (الضحى ـ 7)، ومن العول إلى الغنى، قال الله تعالى:(ووجدك عائلًا فأغنى) (الضحى ـ 8)، فهذه الحالات التربوية التي مرَّ بها النبي وهي (اليتم، والضلال، والعول) ثم إنعام الله عليه بـ(الإيواء والهدى والغنى) هيأت نفس النبي أن يكون راعي الأيتام الضعاف، ويهدي الضالين التائهين، ويغني الفقراء المحتاجين والمساكين، وكل تلك الحاجات تربى عليه النبي فربى به المحتاجين، وعليها أمره الله تعالى للقيام بها على أفضل خلق:(فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث) (الضحى 9 ـ 11)، وثانيًا:(سورة الشرح)، من العسر إلى اليسر، قال الله تعالى:(إنّ مع العسر يُسرًا) (الشرح ـ 6)، أي: انتقال النبي من الشدة إلى الرخاء لا يكون إلا بالصبر، وهذا النوع من الخلق لا يتأتى إلا بعلو الهمّة والاشتغال الدائم بجد في كل نافع يرضي الله، سواء في الدعوة والجهاد وتحفيظ القرآن وتعليم الناس أمور دينهم وكيفية عباداتهم، وكذلك من الفراغ إلى النَّصب، قال الله تعالى:(فإذا فرغت فانصب) (الشرح ـ 7)، أي: إذا فرغت من عمل سابق، فقم بعمل جديد، بلا راحة ولا دعة، ليستغل كل أوقات عمره بالاشتغال بما كلفه الله من تبليغ الناس دينهم، ويتحمل أعباء ذلك التبليغ إلى درجة النصب (التعب)، وأيضًا من الناس إلى الرب، قال الله تعالى:(وإلى ربك فارغب) (الشرح ـ 8)، أي: أترك طلب حاجتك من الناس لتطلبها من ربك، وهذه تربية على التعفف من حاجته للناس، والتوجه كليّا إلى رب الناس، في جميع الاحتياجات والمطالب الدنيا والأخرى، والتوجه بالضراعة والتذلل لله ومسألته وهذا معنى كلمة (فارغب). إنّ القرآن كتاب أخلاق يربي هذه الأمة بعد ضلالها إلى الهداية، قيّمًا وسلوكًا لتكون خيرّة في طباعها، وسطا في تعاملها، وأول من نهل من خلق القرآن هو نبي القرآن، فهو المثال التطبيقي لتعاليم القرآن الكريم، فهناك (العدل):(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة ـ 49)، فتخلق النبي بخلق العدل (عدم الظلم) في الحكم بين المتخاصمين، وفي تقسيم الغنائم، وبين زوجاته، و(الشورى):(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران ـ 159)، فالشورى هي المشاركة في الرأي بين القائد وأتباعه، للوصول إلى القرار الصائب، وقد عمل النبي بهذا الخلق الاجتماعي في تعامله مع أصحابه، ومن ذلك مشورته لهم في موقع معركة بدر، وحفر الخندق، والخروج إلى غزوة أحد، وأيضًا (العفو):(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف ـ 199)، فالعفو عن المسيء، وأمره بالعرف إن كان مستجيبًا، والإعراض عنه إن كان جاهلًا لا يستجيب، وقوله تعالى:(خُذِ الْعَفْوَ) هو دلالة على إعلاء قيمة العفو، وكأنه ثمن يأخذه الخلوق مقابل الإساءة المؤلمة التي يتلقاها من غيره، وأخيرًا (الصبر لنيل مرضاة الله):(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر ـ 7)، فالصبر على مصاعب الدعوة لله، وعلى غضاضة الناس من أقوالهم وأفعالهم ومكرهم، وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى إصابته في المعارك، وعلى حكم الله، وقد جاءت نحو 20 آية تحث النبي على الصبر. وفي الختام نقول: لقد كانت أخلاق النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مستمدّة من أعظم مصدر، وهو ربّ الأخلاق، فكان خُلقه القرآن، يتجسّد في حياته سلوكًا وعدلًا وبرًا وشورى وعفوًا. وهذا يُشعرنا بالاطمئنان إلى كمال خُلقه، ويجعل من الاقتداء به أمرًا لا ريب فيه، بل حاجةً لكل من أراد أن يسير على طريق الهداية. ولم تكن الأخلاق القرآنية حكرًا على النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل هي ميراثٌ مفتوح لأمّته، فمن أراد أن ينهل من معينها، فعليه أن يتعلّمها من سيرة نبيّنا، الذي جسّدها قولًا وفعلًا، فبها تسمو النفوس، وتُبنى الأمم، ويُعرف طريق الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
سامي بن محمد السيابي
كاتب عماني