من بين العدول، وهو الانحراف عن القياس، والمخالفة للاحق عن السابق (العدول في الحركة الإعرابية)، ومجيئها بإعراب آخر، غير السابق لحكمة، ودلالة عقدية لم تكن لتفهم لو جاء التركيب على الأصل، والقياس، والقاعدة النحوية
ومن ذلك العدول من الفتح إلى الضم، أو من النصب إلى الرفع في كلمة (وكلمة الله) في قوله تعالى:(.. وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة ـ ٤٠). نجد المخالفة الإعرابية هنا واقعة بين (كلمة الذين كفروا) التي هي المفعول الأول للفعل (جعل) منصوبة على أصلها، وجاءت على قياسها، و(السفلى) المفعول الثاني للفعل (جعل)، وبين (كلمة الله..)، وكان مقتضى الظاهر أن تأتي (وكلمة الله..) منصوبة؛ عطفًا على الأولى المنصوبة، بحسب أحكام العطف النحوية، ولكن القرآن الكريم خالف ذلك، وأتى بها مرفوعة على الابتداء، وجعل الواو إما استئنافية، ابتدائية، وإما لعطف الجمل، لا لعطف المفردات؛ وفعل ذلك؛ لدلالة عقدية، ضخمة، يجب أن ندين بها، ونعتقدها، وهي أن كلمة الله هي العليا ابتداء، لا بجعل جاعل، ولم تكن كلمة الله (وهي لا إله إلا الله) أبدًا سُفلى، على مرِّ مراحل الدنيا كلها، ولم يأتِ أحد، وجعلها عُليا، مهما بدا ضعف الإسلام، وعدم تمكين حكم الله في الأرض، ومهما وصل بعد الناس عن ربهم، حيث تظل كلمة الله، وهي:(لا إله إلا الله) عُليا دائمًا، من يوم أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يمكن أن تكون سُفلى أبدًا، ويأتي أحد ليرفعها، ويجعلها عُليا؛ لأن الله مالك كونه، يمكن أن يدمره في غمضة عين، ويذيق من أرادها سفلى سوء العذاب، ويجعله عبرة لمن يعتبر.
وبهذا الإعراب نرى أنه قد تحولت الجملة من فعلية في حق الذين كفروا (والفعلية غير ثابتة) إلى جملة اسمية، وهي (وكلمة الله هي العليا) مكونة من مبتدأ أول (وكلمة الله)، ومبتدأ ثان (هي)، وخبر للمبتدأ الثاني (العليا)، والجملة الاسمية من المبتدأ الثاني، وخبره، خبر المبتدأ الأول (كلمة الله)، والجملة الاسمية تفيد في أصل وضعها الثبات، والدوام والاستمرار، والأزلية، والسرمدية، فكانت المخالفة النحوية، ومجيء اللفظ مرفوعًا بعد منصوب؛ لتحقيق تلك الدلالة العقدية الكبيرة، في حق كلمة التوحيد:(لا إله إلا الله) في كونها أزلية الاعتلاء، وسرمدية السمو، وكلمة الذين كفروا (وهي الشرك) هي السفلى دائمًا، مهما بدا انتفاش الباطل، وعلو صوته، وتمكن أهله من السيطرة على مجريات الأمور، ومعهم التطور العلمي، والتقني، والفكري، والعسكري، والسياسي، وغيره، إلا أن كلمتهم سفلى على الدوام، ولا يعلو شيء فوق كلمة الله، وحكمه، وقد أدى ذلك العدول تلك الدلالة، وكشف عن طبيعة، وهدف المخالفة الإعرابية، وما ترمي إليه من معنى سام، وحكمة بالغة، واعتقاد لازم، وبراء كامل ممن يذهب إلى أن كلمة الذين كفروا عليا، وولاء تام لمن يؤمن، ويعتقد أن كلمة الله هي العليا على الدوام، والثبات في كل مراحل الأرض، وأعمار الكون. وقد راق لي تحليلُ أحد العلماء اللغويين المعاصرين الذي ذهب إلى ما سبقتُ إلى شرحه أعلاه، ووجدتُ أنه من الخير سَوْقُه هنا؛ تأكيدًا لرأيي، وفهمي، وكشفًا عن اعتقادي، وولائي لعقيدتي، يقول:(نجد القرآن قد استعمل مع كلمة «الذين كفروا» الجملة الفعلية:(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى)، واستعمل مع «كلمة الله» تعالى الجملة الاسمية: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)؛ وذلك لأن الجملة الفعلية تدل على الحدوث، والتجديد، أما الجملة الاسمية فتدل على الثبوت، والدوام، والاستمرار، ولما كانت كلمة الكفار مذبذبة، وليست ثابتة، وعلوّها وإن كان ظاهرًا شكليًا، فهو صائر إلى هبوط، وتسفل ـ ناسبتها الجملة الفعلية عند الإخبار عنها، ولما كانت كلمة الله تعالى عالية أزلًا، وبلا نهاية ـ ناسبتها الجملة الاسمية الدالة على الثبوت، والاستمرار:(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وجيء في الاسمية بالضمير (هي)؛ لتأكد علوّ كلمة الله، بعد إفادة أزليتها، فالضمير لتأكيد الإسناد بتكراره، والجملة الاسمية لتأكيد أزلية العلو للكلمة، واستمراره بلا نهاية). فالناظر إلى الجملة نظرة نحوية، تفسيرية، عقدية، يتبين له أن المخالفة هنا أقوى في المعنى من القياس، وورود اللفظ على أصله؛ إذ إننا كنا سنفتقد تلك الدلالة العقدية الخطيرة، وتضيع منا مراميها، وتغيب عنا مقاصدها، ومغانيها، بينما المخالفة، والانحراف، والعدول في الإعراب هو الذي وضح لنا، وكشف عن عمق دلالة مخالفة القياس، وجليل ما رمت إليه، ودلتنا عليه، ووضعت بين أيدينا معنى كبيرا، ما كنا سنقف عليه، أو يدور ببالنا، لو جاءت الكلمة منصوبة على وفاق القاعدة، وموافقة للقياس، وماضية على مقتضى الظاهر.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية