السبت 08 نوفمبر 2025 م - 17 جمادى الأولى 1447 هـ

الناصية فـي القرآن.. دقة لفظية «3»

الأربعاء - 05 نوفمبر 2025 01:44 م


أيها الأحباب: وجاءت الناصية في آية أخرى (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) (العلق ـ ١٥)، والآية لها سبب نزول قصة أوجزها لك قارئ الكريم، ألا وهي: روي أن أبا جهل لما قال: إن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجدًا في آخرها ففعل، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعًا، فقيل له مالك؟ قال: إن بيني وبينه فحلًا فاغرًا فاه لو مشيت إليه لالتقمني، وقيل: كان جبريل وميكائيل (عليهما السلام) على كتفيه في صورة الأسد، وقيل : المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر، والجدير بالذكر أنه لما نزلت سورة الرحمن علم القرآن قال (عليه الصلاة والسلام) لأصحابه:(من يقرؤها منكم على رؤساء قريش؟ فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، فأجلسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ رق قلبه وأطرق رأسه مغمومًا، فإذا جبريل ـ عليه السلام ـ يجيء ضاحكًا مستبشرًا، فقال: يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي! فقال: ستعلم، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبًا، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي، ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما سمع ذلك قال: فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال آمنت (يونس ـ 90) وهو قد زاد عتوًا).

وبالتأمل في قوله:(لَنَسْفَعًا) وجوه أحدها: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء، وجذبه بشدة، وثانيها:(السفع الضرب) أي: لنلطمن وجهه، وثالثها:(لنسودن وجهه)، قال الخليل: تقول للشيء إذا لفحته النار لفحًا يسيرًا يغيّر لون البشرة قد سفعته النار، قال: والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها، قال: والسفعة سواد في الخدين، وبالجملة فتسويد الوجه علامة الإذلال والإهانة، ورابعها:(لنسمنَّه) قال ابن عباس في قوله:(سَنَسِمَهُ عَلَى الخُرْطُوم) (القلم ـ ١٦)، إنه أبو جهل، وخامسها:(لنذلنه) (تفسير الرازي 32/‏ 224)، ويقول الطبري (24/‏ 535):(يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ أَبُو جَهْلٍ إِذْ يَنْهَى مُحَمَّدًا عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَالصَّلَاةِ لَهُ، بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ فَيَخَافُ سَطْوَتَهُ وَعِقَابَهُ. وَهُوَ مُكَذِّبٌ مُتَوَلٍّ عَنْ رَبِّهِ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ: إِنَّهُ يَطَأُ عُنُقَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: بل لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَبُو جَهْلٍ عَنْ مُحَمَّدٍ (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) لَنَأْخُذَنْ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، فَلَنَضُمَّنَّهُ وَلَنُذِلَّنَّهُ؛ وَالْمَعْنَى: لَنُسَوِّدَنَّ وَجْهَهُ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ النَّاصِيَةِ مِنَ الْوَجْهِ كُلِّهِ، إِذْ كَانَتِ النَّاصِيَةُ فِي مُقَدَّمِ الْوَجْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى النَّارِ،ووصف ناصية أبي جهل فقال:»ناصية كاذبة خاطئة»، يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة، فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ قال ابن عباس: لما نهى أبو جهل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة انتهره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال أبو جهل أتنتهرني؟ فو الله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلًا جردًا ورجالًا مردًا) (تفسير القرطبي (9/‏ 53).. وأكتفي بهذا القدر، وسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء.

د. محمود عدلي الشريف  

 [email protected]