الخميس 06 نوفمبر 2025 م - 15 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

خطر التغول على القانون

خطر التغول على القانون
الأربعاء - 05 نوفمبر 2025 10:02 ص

د.أحمد مصطفى أحمد

20


منذ بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب فترة رئاسته الثانية الحاليَّة مطلع هذا العام وهو يستهدف «تصفيَّة حسابات» شخصيَّة مع مناوئيه ومنتقديه من فترة رئاسته الأولى. وفي سياق حملته المستمرة على مؤسَّسات الدَّولة واتهاماته العلنيَّة لكُلِّ الإدارة بأنَّها تستهدفه، عمل الرئيس على النَّيل من كُلِّ جوانب البيروقراطيَّة الحكوميَّة. إنَّما الأخطر في هذا التوجُّه أنَّه في سبيل محاكمة وإدانة خصومه المفترضين غير تركيبة نظام العدالة وتطبيق القانون بوضع موالين له شخصيًّا على رأس وزارة العدل والمباحث الفيدراليَّة والنيابة العامَّة وبقيَّة سُلطات إنفاذ القانون. يعمل هؤلاء ليس فقط على «رد الجميل» للرئيس الَّذي عيَّنهم، وإنَّما أحيانًا للمزايدة عليه فيما يرغب ويهوى. لا يتعلق الأمر باحتمالات تلفيق الاتهامات لمن يعدُّهم ترامب خصومه، ومنهم كُلُّ مَن شارك في إثارة عشرات القضايا ضدَّه (الَّتي أغلقها بعدما أصبح رئيسًا) تطبيقًا للقانون، وإنَّما ما نسمعه من الرئيس نفسه من اتهامات للقضاء والمحاكم وسُلطات إنفاذ القانون.

يتجاوز الأمر في الولايات المُتَّحدة رغبة الرئيس ترامب في «الحكم المطلق» دون محاسبة أو مساءلة حتَّى أنَّه يتَّهم الصحافة الَّتي تحاول القيام بِدَوْرها في الرقابة والتدقيق أنَّها «معادية له» ويسعى لإغلاقها. وبالفعل تمكَّن من تكميم كثير من الأفواه المهنيَّة وإغلاق منافذ إعلاميَّة حكوميَّة ودفع مواليه من رجال المال لشراء منافذ أخرى لإخراس صوتها الحُر. إذ يرى ترامب ومَن حَوْلَه أنَّ القانون يقف عقبة أمام تنفيذ ما يريدون. يزيد الهجوم على أحكام القضاء الَّتي تلغي قرارات إغلاق الوزارات والإدارات الحكوميَّة وتسريح الموظفين والعاملين وقرارات التهجير تحت دعاوى غير دقيقة بارتكاب الجرائم. أمَّا التحدِّي الأكبر فهو أحكام القضاء بشأن قرارات فرض رسوم التعريفة الجمركيَّة على شركاء أميركا التجاريين حَوْلَ العالم، وهي السياسة الَّتي يعدُّها ترامب وفريقه أهم إنجازات إدارته الجديدة. مع أنَّ الأمر رفع إلى المحكمة العليا، وهي أعلى سُلطة قضائيَّة في أميركا، إلَّا أنَّ إدارة ترامب تخشى خسارة المعركة القضائيَّة فتصعد هجومها على القضاء والقانون عمومًا. ذلك على الرغم من أنَّ ترامب سبق وعيَّن عددًا معقولًا من قضاة المحكمة العليا في فترة رئاسته الأولى بما يضْمن له التصويت لصالحه في أيِّ قضيَّة مرفوعة أمامها.

الواضح أنَّ تغوُّل إدارة ترامب على القانون وسُلطات تطبيقه وإنفاذه أكبر من مجرَّد محاولة «إخضاع القانون» لرغبات الرئيس. ولعلَّ لذلك علاقة بشخصيَّة الرئيس وتوجُّه من اختارهم لمساعدته في الحُكم وكيف أنَّهم يرون في القانون وسُلطات تنفيذه من قضاء ونيابة وشُرطة ومباحث «أعداء» لهم. مثال على ذلك، ما يحاول ترامب القيام به من إحلال «الحرس الوطني» محل قوَّات الشُّرطة والأمن المحليَّة في الولايات. ذلك أنَّ الحرس يتبع الجيش الَّذي يُعدُّ ترامب قائده الأعلى بحكم الدستور، وبالتَّالي لا تملك تلك القوات سوى تنفيذ أوامر قيادتها على عكس الشُّرطة وقوَّات الأمن. رغم صدور أحكام قضائيَّة ضد تلك الإجراءات الترامبيَّة، إلَّا أنَّ الرئيس ماضٍ في محاولاته استخدام الجيش بديلًا لأجهزة حفظ النظام وتنفيذ القانون الَّتي قد لا تنفّذ رغباته. هل من المبالغة القول إنَّ مَن يَعدُّ سُلطات القانون عدوَّه الأول هم المجرمون الَّذين يرتكبون المخالفات وانتهاكات القانون؟ رُبَّما ليست مبالغة تمامًا، فقد سبق وأُدين ترامب في عدَّة قضايا بعضها جنائيَّة، ولولا فوزه بالرئاسة لرُبَّما كان مصيره السجن في بعضها.

لا يقتصر خطر التغوُّل على القانون وسُلطات إنفاذه على الولايات المُتَّحدة في ظل إدارة الرئيس ترامب، بل إنَّ هذا التوجُّه الأميركي يشجِّع كثيرين حَوْلَ العالم لاعتماد ذلك النهج. على سبيل المثال، حكومة الاحتلال الصهيوني برئاسة بنيامين نتنياهو ومن معه من متطرفين يصعدون التغوُّل على القانون بشتَّى السُّبل. ليس فقط بسبب القضايا الَّتي يمثُل فيها نتنياهو نفسه أمام المحاكم والَّتي يُمكِن أن تحكم بسجنه في بعضها حال خروجه من الحكومة، وإنَّما لأنَّ هؤلاء المتطرفين أيضًا يرون في القانون وسُلطات إنفاذه عقبة أمام سياساتهم الَّتي تقترب من الإجرام العلني المباشر. تجاهلت حكومة الاحتلال أحكام القضاء فيما يخص بعض سياسات الاستيطان، ودفعت دوائر قضائيَّة معيَّنة لتثبيت سياسات إجراميَّة مثل «سرقة» أموال الفلسطينيين الَّتي يحصلها الاحتلال. بل إنَّ نتنياهو أقال محامية الحكومة لمحاولتها الالتزام بالقانون على شوائبه. ومؤخرًا أُلقي القبض على اللواء المدَّعية القانونيَّة لجيش الاحتلال لأنَّها لم تقبل الانتهاكات البشعة بحقِّ الأسرى الفلسطينيين باعتبارها مخالفة للقانون.

حتَّى في بعض البلدان الَّتي توصف بأنَّها «ديموقراطيَّة» في أوروبا نجد ملامح تغوُّل على القانون بضغط من السياسة والسياسيين ليس فقط من اليمن المتطرف، بل من تيَّارات سياسيَّة كانت تُعدُّ من أنصار القانون والعدالة. ففي بريطانيا، البلد الَّذي كان يضرب به المثل في احترام القانون سبق وخدعت حكومة المحافظين الشَّعب ليصوت للخروج من الاتحاد الأوروبي أساسًا كَيْ «يتحرر» من قيود القوانين الأوروبيَّة الصارمة في مجال حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيَّة وغيرها. ورغم أنَّ رئيس الوزراء البريطاني الحالي جاء من خلفيَّة قانونيَّة، إذ كان رئيسًا للادعاء العام قَبل دخوله السياسة، إلَّا أنَّه نموذج لما يُقال عن المحامين: أفضل مَن يلتف على القانون هو مَن يعرف تفاصيله وثغراته. الخطر الأكبر حقًّا هو أن يسير العالم باتجاه «تمييع» القانون والتغوُّل على تطبيقه وإنفاذه اقترابًا من «شريعة الغاب».

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]