الخميس 06 نوفمبر 2025 م - 15 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : سلطنة عمان الأولى عربيا والرابعة عالميا فـي مؤشر الأمان.. قراءة فـي الدلالات والمعاني

في العمق : سلطنة عمان الأولى عربيا والرابعة عالميا فـي مؤشر الأمان.. قراءة فـي الدلالات والمعاني
الثلاثاء - 04 نوفمبر 2025 10:46 ص

د.رجب بن علي العويسي

330

في تقرير حديث صدر عن مؤسَّسة «جالوب» الدوليَّة لعام 2024 حصلت فيه سلطنة عُمان على المركز الرابع عالميًّا والأول عربيًّا في مؤشر أكثر الدول الَّتي يشعر شعوبها بالأمان، وبنسبة بلغت (94%)، وبالتالي ما يحمله هذا التصنيف من معانٍ ودلالات عميقة تؤكد رسوخ الأمن والأمان في سلطنة عُمان، وكفاءة الأدوات وثبات الإجراءات الَّتي التزمتها الدولة في بناء منظومة أمنيَّة متكاملة تستند إلى الثوابت والفكر، والقِيَم والأدوات، والسياسات والتشريعات، والقانون والنظام، والإنسان في آنٍ واحد.

وأسهمتْ فلسفة الأمن الَّتي انتهجتها سلطنة عُمان في إعادة إنتاج إرثها الحضاري والتاريخي بصورة متجدِّدة، جمعت بَيْنَ الأصالة والمعاصرة، وأعادت صياغة مفاهيم الأمن باعتباره إطارًا إنسانيًّا تنمويًّا شاملًا، فالأمن في الفكر العُماني حالة من التوازنات النفسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والاقتصاديَّة الَّتي يعيشها العُماني في وعيٍ واطمئنانٍ والتزام. شكَّلت الثوابت العُمانيَّة قاعدةً صلبةً لبناء هذه المنظومة وتحقيق التكامليَّة النموذج في أبعادها المختلفة وغاياتها السَّامية، جعلت من الأمن في سلطنة عُمان خيوطًا ممتدَّة تبدأ من حماية الأفراد إلى صون النسيج الاجتماعي، ومن تعزيز الاستقرار إلى بناء الثقة بَيْنَ المواطن والدولة.

إنَّ هذا الاستحقاق الأمني لعُمان يحمل في طيَّاته رسالةً للعالم، مفادها أنَّ الأمن والأمان خيار استراتيجي وهُوِيَّة وطنيَّة، وأنَّ السلام والتعايش والتسامح واقعٌ متجذر في الفكر والممارسة. فالأمن يعني قدرة الإنسان على أن يعيشَ مطمئنًا آمنًا في وطنه، مخلصًا له، فخورًا بانتمائه إليه؛ وهو قِيمة دينيَّة وحضاريَّة وإنسانيَّة ووطنيَّة أصَّلها سلاطين عُمان العظام في نظام الحكم ورسالة الدولة، وأطَّر معالمها النظام الأساسي للدولة في المادة (17) المبادئ الأمنيَّة، وقد جاءت رؤية «عُمان 2040» لتؤكد هذا المسار، عَبْرَ إدماج مفاهيم الأمن في برامج التنمية الوطنيَّة، لتضع غايتها الإنسان بوصفه محور البناء وهدفه الأسمى.

وأوجد الوعي الفكري والاتزان المعرفي تحوُّلات إيجابيَّة في حياة العُماني كان لها أثرها في انطلاقته للعالم واستعداده للتعامل مع الظروف والمتغيِّرات المحيطة به وبعالمه بمهنيَّة عالية ودبلوماسيَّة حكيمة في المعالجة، انعكست على كُلِّ مجريات الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة وارتبطت بالشخصيَّة العُمانيَّة وما عرف عنها من استقامة في الفكر واعتدال في النهج وحكمة في التصرف وحنكة في توظيف الفكر الإنساني والاستفادة منه، كما عكس نهج الولاء المتفرد والانتماء الصادق.

لقد أكدت السياسة الداخليَّة ونهج التنمية الشامل والعدالة وتكافؤ الفرص بَيْنَ المواطنين ومختلف محافظات عُمان وولاياتها، على إنسانيَّة النهضة. فالإنسان هو أولويَّتها وهدفها وغايتها، وهو أساس نجاحها ومسار تقدُّمها ونموِّها، الأمر الَّذي مكَّن المواطن ووفَّر له كُلَّ الفرص التعليميَّة والصحيَّة والمعيشيَّة والتنمويَّة، كما وفَّرت المؤسَّسات العدليَّة والقضائيَّة والتشريعيَّة والتنفيذيَّة للمحافظة على الحقوق وسيادة القانون والقضاء والعدالة الاجتماعيَّة وتكافؤ الفرص، ووحدة المبدأ والمصير، وفْقَ سياسات وطنيَّة متوازنة حافظت على درجة الأمان والسلامة للمواطن وإبعاده عن مصادر الخطر، وفْقَ تشريعات منظّمة، وأُطر وإجراءات دقيقة ضمنت الاستدامة والتنوُّع والتوسُّع في الخيارات، والَّتي أثمرت عن تحقيق نتائج نوعيَّة على مستوى المُجتمع، تمثلت في اللحمة الاجتماعيَّة بَيْنَ طوائفه وفئاته ومذاهبه، وتعزيز التكافل والتقارب وتأصيل مفاهيم راقيَّة ونماذج عمليَّة في التعايش والتسامح والوئام والولاء والانتماء.

وكان لهذه التوازنات في مجريات الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة أثرها في رفع درجات الوعي لدى المواطن الَّذي حفظ مكتسبات النهضة، وحافظ على حضور القِيَم والأخلاق والهُوِيَّة العُمانيَّة في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة، وأدرك المواطن العُماني الَّذي يعيش كغيره في عالم كوني واسع، ما تُمثِّله التحدِّيات الفكريَّة من حضور في أحداث العالم المعاصر وقضاياه، والَّتي تستنزف موارد الأوطان وثرواتها، وتأثيرها على أمن واستقرار المُجتمع وصحَّة وسلامة الإنسان النفسيَّة والفكريَّة، لذلك أصبح دَوْر المواطن أصيلًا في المحافظة على الأمن والأمان في سلطنة عُمان، للقناعة بأنَّه كُلَّما قوي الوعي الفكري للمواطن والتصق بالثوابت الوطنيَّة أسْهَم ذلك في الحفاظ على المقدرات الوطنيَّة والتزم الثوابت العُمانيَّة المعزِّزة لقِيَم المواطنة والولاء والانتماء.

وأثمرت سياسة الوضوح ومصداقيَّة المبادئ وثباتها الَّتي انتهجتها سلطنة عُمان في سياستها الخارجيَّة الَّتي اكسبت ثقة المُجتمع الدولي، وعزَّزت مجالات التعاون واستثمار الفرص نَحْوَ شراكة أفضل، ومناصرتها للقضايا الدوليَّة المعزِّزة للتسامح والسلام والوئام بَيْنَ الشعوب، وتغليب منطق الحوار والحكمة والعدل والمساواة في حلِّ القضايا السياسيَّة بعيدًا عن الحرب، فكانت صوت العقل في محيط مضطرب، وجسرًا للتواصل بَيْنَ المتناقضات الإقليميَّة والدوليَّة، والتزمت عُمان بثوابتها القائمة على حُسن الجوار، واحترام السيادة الوطنيَّة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، والدعوة إلى حلِّ النزاعات بالطُّرق السلميَّة. هذا النَّهج أكسبها احترام العالم، وجعلها محطَّة ثقة ومركز توازن في منطقة تعاني من أزمات متلاحقة.

وشكَّل التكامل المؤسَّسي النموذج في صون الأمن العام وحماية الأرواح والممتلكات، وتطوير منظومات متقدمة لمكافحة الجريمة وتعزيز السلامة العامَّة ومواجهة المخدرات والمؤثرات العقليَّة، ورفع كفاءة الأداء وتسريع الإنجاز وضمان الشفافيَّة عَبْرَ تعزيز التحوُّل الرقمي في الخدمات، نقطة تحوُّل عزَّزت من ثقة المُجتمع في مؤسَّساته الأمنيَّة. ومع ذلك لم تقف الجهود الأمنيَّة عند هذا الحدِّ، بل وضعت الحسَّ الأمني منطلقها في التعامل مع تحدِّيات الأمن الفكري والاجتماعي، وتزايد المؤثرات الفكريَّة والسلوكيَّة الناتجة عن الانفتاح التقني والإعلامي، وانتشار الظواهر السلبيَّة عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة، وتداعياتها على الهُوِيَّة والقِيَم والخصوصيَّة، لتتجلَّى الجهود في رفع درجة الوعي الجمعي وتعزيز الجاهزيَّة وتحصين المُجتمع من الأفكار الدخيلة والمشوِّهات الفكريَّة ومواجهة الإرهاب أو الفكر المتطرف، ما يعكس عمق الاستقرار الفكري والاجتماعي الَّذي تنعم به.

على أنَّ التناغم بَيْنَ الأمن وبيئة الاقتصاد والأعمال شكَّل معادلة القوَّة في الاستراتيجيَّة الأمنيَّة العُمانيَّة، فالأمن يولِّد الثقة، والثقة تجذب الاستثمار وتدعم التنمية المستدامة، ويصبح وجوده إيذانًا بتحوُّلات نوعيَّة في مسيرة التنمية وتطوُّر ملموس في أدواتها وبدائل، ومساحات أوسع لتحقيق نجاحات أكبر وفرص تنمويَّة تتجه نَحْوَ زيادة في معدَّلات النُّمو الاقتصادي وارتفاع المؤشرات الناتجة عن الاستثمار الاجنبي الَّتي تنعكس على النوع البشري في قوَّة الدخل وتنوع مصادره وكفاءة استخدامه ومهنيَّة إدارته، فإنَّ الأمن بذلك يُمثِّل مسارًا اقتصاديًّا نوعيًّا ومساحة متجددة لبناء اقتصاد وطني مستدام يقوم على تعزيز فرص التشغيل والبحث العلمي والتوظيف الناجح للمهارة، والابتكار الصناعي والتسويق الاقتصادي وتمكين الشباب من بناء مشروعاتهم الاقتصاديَّة وفرص الإنتاجيَّة لدَيْهم، والعمل على إزالة المعوِّقات الإداريَّة والماليَّة والتنظيميَّة الَّتي قد تؤثر على مناخ الاستثمار والاقتصاد، لصناعة منظومة وطنيَّة متكاملة عمادها الأمن وركيزتها الاقتصاد، تُسهم في استقرار المُجتمع وتنمية موارده.

وعليه، فإنَّ حديثنا عن الأمن يَجِبُ أن ينتقل من مرحلة الإشادة بهذه التقارير عَبْرَ الإعلام والمنصَّات الرقميَّة، إلى قراءة معمقة لفلسفة الأمن في سلطنة عُمان والممكنات الداعمة لها، وتحويلها إلى لُغة الأرقام والإحصائيَّات، والبيانات الرقميَّة والمعلومات الاقتصاديَّة ومؤشرات الإنجاز والنواتج المتحققة منها وتأثيرها المباشر وغير المباشر على ببيئة الأعمال والاستثمارات الأجنبيَّة وزيادة المؤشر الاقتصادي الوطني، ووضع المواطن في الصورة الفعليَّة الناتجة عن تحقق الأمن، ليشعر بوجوده في حياته ووظيفته ومهامه ومشروعه ومعيشته ورفاهيَّته، فإنَّ الاستحقاق الأمني الَّذي رافق سياسة سلطنة عُمان الداخليَّة والخارجيَّة من أكثر من خمسة عقود لجدير بأن تُقرأ انعكاساته على حياة العُماني، وفي الاقتصاد، والسياسات التنمويَّة والاجتماعيَّة والمعيشيَّة، والاستقطاب الوطني للمؤثرين والفاعلين العالمين في مجالات العِلم والابتكار والتقنيَّة والفضاء والاقتصاد والطاقة المتجدِّدة والطِّب والصحَّة والغذاء والسياحة والاقتصاد وريادة الأعمال، وأن تستفيدَ سلطنة عُمان من «اقتصاد الأمن «في تعزيز الوعي وبناء استراتيجيات المواجهة وكفاءة وثبات الإجراءات في رصد مدركات الفساد، وقياس الثقة المُجتمعيَّة وتعظيم القِيمة المضافة للمورد البشري العُماني.

أخيرًا، لقد أثبتت السياسة العُمانيَّة أنَّ الأمن تجسيد عملي للوعي والانتماء والولاء والالتزام، وصناعة مواطن شريكٌ في هذه المنظومة يحمل على عاتقه مسؤوليَّة المحافظة على مكتسبات النهضة وحماية الهُوِيَّة الوطنيَّة وتعظيم دَوْرها في التعبئة القِيَميَّة، وتفاعله الواعي مع الحالات الطارئة والأزمات بدرجة عالية من النضج والالتزام والمسؤوليَّة، فإنَّ استحقاق حصول سلطنة عُمان على التصنيف المتقدم عربيًّا وعالميًّا جاء حصيلة خبرات تراكميَّة لسياسات حكيمة ورؤية استراتيجيَّة تبنتها سلطنة عُمان جعلت من الأمن قاعدةً أساسيَّة لبناء الدولة العصريَّة، وركيزةً لاستدامة التنمية، وضمانًا لحياة كريمة للمواطن والمُقِيم على أرضها، استراتيجيَّة حياة ومسارًا وطنيًّا ممتدًّا ومشروعًا حضاريًّا متجدِّدًا، يتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيل، في سبيل بقاء عُمان واحةً للأمن والسلام، ومنارةً للحكمة والاستقرار.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]