الاثنين 03 نوفمبر 2025 م - 12 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : منظومة «إجادة» بعد تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة.. تصحيح المسار أم نهاية التجربة؟

في العمق : منظومة «إجادة» بعد تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة.. تصحيح المسار أم نهاية التجربة؟
الاثنين - 03 نوفمبر 2025 10:59 ص

د.رجب بن علي العويسي

10


منظومة «إجادة» لتقييم الأداء الفردي والإجادة المؤسَّسيَّة الَّتي طُبِّقت على مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة، كانت منذ بدايتها محلَّ استياء واسع بَيْنَ أطياف المُجتمع الوظيفي في مختلف المؤسَّسات الحكوميَّة. فقد عَبَّرَ الكثير من العاملين والمهتمين عَبْرَ المنصَّات التواصليَّة، وكتَّاب الأعمدة في الصحف، والمواقع الشخصيَّة عن وجهات نظر تدعو الجهات المختصَّة إلى إعادة النظر في مسار «إجادة» وتصحيح الانحراف الحاصل في أدائها وضبط أدواتها، خصوصًا في ظل ما نتج عن عمليَّة التقييم من تباينات كبيرة وأنماط تقييميَّة لا تمتُّ إلى الواقع بِصِلَة، وأوجدت حالة من الخلافات والتباينات وعدم الانسجام في بيئات العمل، حيثُ اتجهت تلك الأطروحات إلى التأكيد على أهميَّة حوكمة نظام «إجادة» وضبطه وإيجاد معايير واضحة ومحكات دقيقة تمنع المزاجيَّة وتحدُّ من التدخلات الشخصيَّة الَّتي أصبحت ظاهرة للعيان، بعد أن باتت المنظومة تمنح حوافز ومكافآت لِمَن لا يستحقونها، في حين حُرم منها آخرون أكثر كفاءة، ممَّا ولَّد حالة من الامتعاض وعدم الرضا بَيْنَ أفراد المُجتمع الوظيفي.

لقد كنتُ شخصيًّا، كغيري من أبناء هذا المُجتمع، من الَّذين لم يجدوا في نظام «إجادة» أيَّ فرصة حقيقيَّة لتحقيقِ التَّحوُّل الشامل الَّذي يتحدث عنه القائمون على «إجادة» في تصريحاتهم الإعلاميَّة؛ ومنذ البداية دعوتُ في أكثر من مقال إلى ضرورة حوكمة منظومة «إجادة»، مؤكدًا أنَّها بحاجة إلى ضبطيَّة واضحة ومعايير دقيقة، وأنَّها لن تكُونَ قادرة على رسم ملامح التحوُّل القادم في المُجتمع الوظيفي وبناء «عُمان المستقبل» وتحقيق العدالة المهنيَّة والإنتاجيَّة الفرديَّة والمؤسَّسيَّة، إلَّا من خلال مراجعة شاملة لتوجُّهاتها. ومن بَيْنِ تلك المقالات ما كتبتُه بعنوان: «منظومة تقييم الأداء الفردي والإجادة المؤسَّسيَّة بحاجة إلى ممكنات»، ومقال آخر بعنوان: «نظام إجادة بحاجة إلى حوكمة توجه أدائه وتضبط مساره»، فضلًا عن عشرات التغريدات الَّتي تناولت هذا الموضوع في مراحل مختلفة من التطبيق.

وعلى ما يبدو أنَّ حصرية الرأي، وعدم قَبول أي مساحة من التفكير خارج الصندوق أو مراجعة جادَّة شاملة تقف على ملاحظات المُجتمع الوظيفي وثغرات النظام، أدَّت إلى استمرار الوضع على حاله، وأصبح نظام «إجادة» في كُلِّ دَوْرة تقييم جديدة حديث المُجتمع الوظيفي ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لِمَا يخلِّفه من نتائج مثيرة للجدل وغير منطقيَّة، في ظل غياب وجود محكات واضحة وأدوات رصينة للقياس والتقييم، وبقائها رهينةً لقرارات ومراجعات لا تتجاوز في معظمها محاولات إسكات صوت المُجتمع الوظيفي.. ومع مرور الوقت، كانت الآمال تتَّجه نَحْوَ إحداث تحوُّل نوعي يُعِيد ضبط «إجادة» وتوجيه بوصلتها في الإطار الصحيح، بما يُحقِّق أولويَّات ومستهدفات رؤية «عُمان 2040» في بناء المواطن المسؤول، والمسؤول الأمين، والموظف المخلص، لكنَّ الإصرار على المنظومة وما صاحبه من استفزاز في بعض الأحيان خلَّف فجوة متسعة بَيْنَ المنظومة والمُجتمع الوظيفي ورسَّخ صورة سلبيَّة حَوْلها الَّتي لم تَعُدْ تُعَبِّر عن طبيعة المرحلة، ولا تُحقِّق طموحات مُجتمع الرؤية في بناء جهاز إداري فعَّال قائم على العدالة والنزاهة.

لقد قيَّض الله لهذا الوطن مَن يرفع سقف طموحات أبنائه ويُجدِّد آمالهم، وهو مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ القائل في خِطابه السَّامي: «إنَّ الانتقال بعُمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتَّى المجالات، سيكُونُ عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نُصب أعيننا المصلحة العليا للوطن، مسخِّرين له كافَّة أسباب الدَّعم والتمكين». واستلهامًا من هذه التَّوجيهات السَّامية، جاء دَوْر جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة، بوصفه صوت الحق والضمير الوطني ونهج النزاهة والشفافيَّة، لِيواصلَ رسالته في حماية المال العام وضبط الأداء وتعزيز المساءلة، فقام ضِمن استراتيجيَّاته الرقابيَّة بفحص منظومة تقييم الأداء الفردي والإجادة المؤسَّسيَّة «إجادة»، ليرصدَ بأدواته الدقيقة الخلل ويكشف الانحرافات الَّتي رافقت تطبيقها منذ بدايتها.

وبفضل الله تعالى ويقظة القائمين على جهاز الرقابة وخبرتهم وحنكتهم؛ سجَّل الجهاز في تقريره خمسة تجاوزات جوهريَّة تمثلت في وجود قصور واضح في حوكمة وإدارة قواعد بيانات المنظومة، حيثُ لا تمتلك وزارة العمل صلاحيَّة الوصول المباشر إلى قواعد البيانات، ممَّا يضعف قدرتها على ضمان أمن المعلومات ومراقبة إدارة البيانات الَّتي تتولاها الشركة المطوِّرة؛ وأنَّ هذه الأخيرة استعانت بكوادر فنيَّة غير عُمانيَّة في إدارة النظام، في مخالفةٍ صريحة للتعاميم المنظِّمة لشغل وظائف أمن المعلومات، وأنَّ الشركة نفَّذت أعمالًا تجريبيَّة في بيئة النظام الحيَّة دُونَ ضوابط تفصل بَيْنَ البيانات الحقيقيَّة والتجريبيَّة، ممَّا أثَّر على السّعة التخزينيَّة وأمن البيانات. بالإضافة إلى وجود حسابات غير معرّفة تمتلك صلاحيَّات إنشاء مستخدمين جُدد، استُغلت لإنشاء حسابات بأسماء موظفين دون إمكانيَّة تتبع الجهة الفعليَّة الَّتي أنشأتها، وهو ما يُهدِّد موثوقيَّة النظام وشفافيَّته. والتجاوز الخامس، منح صلاحيَّة «مسؤول النظام» لمُوظَّفين غير مخوَّلين بامتلاك تلك الصلاحيَّة، الأمر الَّذي يُشكِّل خطورة في ظل إمكانيَّة اطلاع أشخاص غير مخولين على بيانات المنظومة واستغلالها.

إنَّ ما كشف عنه تقرير جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة من تجاوزات تقنيَّة ومعلوماتيَّة يُمثِّل مؤشرًا خطيرُا على الخلل في بنية منظومة «إجادة»، ويطرح تساؤلات عميقة حَوْلَ جوهر الثقة والمصداقيَّة والشفافيَّة فيها. فالتلاعب بالبيانات، وضعف الضمانات الَّتي تحمي حقوق المُجتمع الوظيفي المشمولين بالنظام، وتضخيم الدعاية الإعلاميَّة حَوْلَه، كُلُّها عوامل أسهمت في خلق صورة باهتة ومضلِّلة لا تُعَبِّر عن واقع المنظومة الحقيقي. وقد أثبتت النتائج أنَّ التعامل مع «إجادة» عَبْرَ فرض سياسة الأمر الواقع، مع الاكتفاء بتكرار عبارات عامَّة عن مواءمة المنظومة للتوجُّهات الوطنيَّة، دون أيِّ مراجعة أو تقييم واقعي لمستوى التنفيذ والتطبيق، لِيُشكِّلَ تقرير جهاز الرقابة صدمة كبيرة لكُلِّ ذلك الترويج لـ»إجادة»، وصرخة في وجْه غياب الحوكمة والأُطر التنظيميَّة والتقنيَّة والتشريعيَّة الَّتي تحكم أداء هذه المنظومة.

من هنا يُمثِّل تقرير جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة خريطة طريق لإعادة تقييم الأُطر وضبط الممارسة وتصحيح المسار وتوجيه البوصلة وصناعة التحوُّل، بحيثُ تشهد المرحلة القادمة حراكًا رقابيًّا وتشريعيًّا واسعًا لإعادة تقييم هذا النظام وإصلاحه من الداخل، استنادًا إلى ما ورد في التقرير من تجاوزات ومخالفات، وأن يتجهَ العمل نَحْوَ تصحيح مسار المنظومة وأدواتها تحقيقًا لفلسفتها في تعزيز كفاءة الأداء الحكومي وتعظيم الإنتاجيَّة والمهنيَّة والنزاهة، لذلك لم يكُنْ تقرير جهاز الرقابة مجرَّد توثيق لمخالفات ماليَّة أو إداريَّة أو تقنيَّة في النظام، بل دعوة صريحة لإعادة النظر في فلسفة منظومة «إجادة» وأهدافها وأدواتها، وإعادة بنائها على أُسُس من العدالة والمهنيَّة والشفافيَّة، ذلك أن بناء منظومة أداء فردي وإجادة مؤسَّسيَّة فعَّالة يتطلب وضوحًا في المسار، ومهنيَّة في الطرح، وعُمقًا في الفلسفة والأدوات، وتقييمًا واقعيًّا للنتائج، وقَبل ذلك كُلِّه قَبولًا للرأي والرأي الآخر، وقدرة على تقبُّل النقد باعتباره الطريق السليم نَحْوَ العدالة والشفافيَّة واعترافًا بالخلل، وإيمانًا بالقِيمة المضافة للمراجعة، والعمل الصادق على تصحيح المسار.

أخيرًا، نعتقد بأنَّ إصلاح «إجادة» يتطلب إجراءات حقيقيَّة وجادَّة وسريعة على الأرض في امتصاص حالة الاستياء المُجتمعي وإعادة الثقة، بحيثُ يتَّجه نَحْوَ أمرَيْنِ: أوَّلهما: وقف العمل بنظام إجادة مؤقتًا بغرض مراجعتها وضبطها وإعادة إنتاجها بشكلٍ يُعِيد الثقة للمُجتمع الوظيفي، ويؤسِّس لمرحلة جديدة قائمة على الشفافيَّة والمصداقيَّة. وثانيهما: إنشاء مرجعيَّة وطنيَّة عُليا تحت مُسمَّى «هيئة تقييم الأداء الفردي والإجادة المؤسَّسيَّة»، تمنح الاستقلاليَّة في صلاحيَّاتها الإداريَّة والماليَّة، ويُعيَّن رئيسها بمرسوم سُلطاني، لتتولَّى وضع المعايير العالميَّة في قياس الأداء الفردي والمؤسَّسي، وتطبيقها على أُسُس من النزاهة والعدالة والشفافيَّة. وتختص هذه الهيئة بالإشراف على تقييم فئات المسؤولين والمُجتمع الوظيفي في الجهاز الإداري للدولة بمستوياته المختلفة، بما في ذلك الوزراء ووكلاء الوزارات ومَن في حكمهم، ومديرو العموم، والمستشارون، والخبراء، ورؤساء المكاتب، ومؤسَّسات الجهاز الإداري المختلفة والهيئات والشركات الحكوميَّة الَّتي تسهم فيها الدولة، تحقيقًا لمبادئ الرقابة والمساءلة الواردة في المادة (56) من النظام الأساسي للدولة.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]