عندما يعلن أيُّ فرد منَّا نيَّته أداء فريضة الحج، أجزم هنا إضافة إلى كونه أداء لشعيرة غالية على كُلِّ مُسلِم، إلَّا أنَّه في ذات الوقت ليس مجرَّد قرار مالي أو لوجستي، بل هو أيضًا تأمل واضح في جاهزيَّته البدنيَّة والصحيَّة. حيثُ ندرك جميعًا هنا بأنَّ الحج يتطلب قدرة بدنيَّة جيِّدة، وذلك لضمان سلامة الحاج أو الحاجة على أداء المناسك بسهولة. وهنا ـ بلا شك ـ يختلف الحج عن أيِّ رحلة عاديَّة، فهو يتضمن المشي لمسافات طويلة تحت أشعة الشمس أحيانًا، والوقوف لساعات طويلة، والتنقل بَيْنَ حشود كبيرة في ظروف مختلفة.
طبعًا بالنظر عن كثب إلى الوضع الصحي للحجاج، نجد أنَّ نسبة كبيرة منهم يعانون من أمراض مزمنة تسبب إجهادًا إضافيًّا للجسم أثناء أداء المناسك. وهذا ما بَيَّنَته إحدى الدراسات الحديثة والَّتي أفادت بأنَّ حوالي ستة وثلاثين بالمائة من الحجاج كانوا يعانون من أمراض مزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والأوعية الدمويَّة، حتَّى قَبل بدء الحج. وعليه، ومن هذا الواقع فإنَّه يتطلب المسؤوليَّة والوعي، فالإصابة بمرض مزمن لا تمنع بالضرورة من أداء الحج، ولكنَّها تتطلب تخطيطًا طبيًّا دقيقًا وتقييمًا أدقَّ قَبل الذهاب للحج وأداء مناسكه العظيمة بأشْهُر طويلة!
من ناحية أخرى، لا تزال أمراض القلب من أبرز أسباب دخول العناية المركزة والوفيات خلال الحج. فالإجهاد المستمر على القلب نتيجة المشي لمسافات طويلة والوقوف في الحرِّ قد يرهق من ليس لدَيْهم استعداد بَدني مسبقًا، أو أنَّه لم يستعد علاجيًّا قَبل ذلك! وهذا يؤكد أنَّ القدرة الطبيَّة ليست مفهومًا نظريًّا، بل ضرورة حيويَّة يَجِبُ تقييمها بجديَّة قَبل السفر.
وبالتالي، ينبغي اعتبار التحضير البدني امتدادًا للنيَّة القلبيَّة، وهو شكل من أشكال التفاني من خلال العناية بالنفْس. فقد أظهرت الأبحاث أنَّ ممارسة برامج رياضيَّة منظَّمة لمدَّة ثلاثة أشْهُر على الأقل قَبل السفر تُحسِّن بشكل ملحوظ وظائف القلب والرئة، وتقوِّي عضلات الساقين، بل وتقلل من التعب ومخاطر الإصابة. وبذلك، يصبح تحضير الجسم شكلًا من أشكال الإخلاص في العمل، وبادرة احترام لرحلة الحج الَّتي تنتظر كُلَّ حاج وحاجة لبيت الله.
وهنا ومن الآن يَجِبُ على المرء تقييم صحَّته العامَّة: هل ضغط الدم مسيطر عليه؟ هل يدار مرض السكري بشكلٍ جيِّد؟ وهل هناك مشاكل عضليَّة قد تعيق المشي؟ وهل يتحمل الجسم الحرارة والجهد؟ كُلُّ هذه الأسئلة وجدتها مهمَّة، خصوصًا وأنَّ دراسة سعوديَّة طويلة الأمد شملت نصف مليون حاج على مدى عشر سنوات، أكدت أنَّ مَن تبلغ أعمارهم ستين عامًا فأكثر، أو مَن يعانون من ارتفاع ضغط الدم، أو داء السكري أو عادات التدخين، كانوا أكثر عرضة بشكلٍ ملحوظ للمضاعفات الطبيَّة أثناء الحج، خصوصًا إذا ما أدركنا أنَّ الحجاج يمشون عادة أكثر من عشرة كيلومترات يوميًّا. فما بالك بمَن يعانون من آلام في الساق، أو آلام أسفل الظهر، وكُلُّها آلام تظهر بنِسَب عالية عند الكثير من الحجاج، ناهيك عن آلام الركبة. وهذا يبرز أهميَّة تعزيز القدرة على التحمل والقوَّة قَبل السفر، وخصوصًا في السَّاق والظهر.
ختامًا، كما يعي الجميع الكفاءة الطبيَّة ليست مجرَّد إجراء شكلي، بل هي مدخل أخلاقي وعملي يضمن أن يظلَّ الحج تجربة آمنة وثريَّة. كُلُّ ذلك بالتقييم السليم واللياقة البدنيَّة والتحضير الواعي، يُمكِن للحاج الانخراط الكامل في الجوهر الروحي للرحلة، وخير مثال هو الوقوف في عرفات بقوَّة وسكينة بدلًا من التعب... وهكذا يظل الحج حجًّا للجسد والروح.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي