كان لافتًا مستوى الحضور الأوروبي الرفيع لحفل افتتاح المتحف المصري الكبير، فقد شارك عدد كبير من الملوك والرؤساء وكبار المسؤولين الأوروبيين، على عكس المشاركة العربيَّة الخجولة، وهذا الأمر ليس له علاقة بالسياسة، أو العلاقات الدوليَّة، ولكن مرجعه لهوس الأوروبيين منذ القِدم بالآثار المصريَّة القديمة، فكان القناصل الأوروبيون المعتمدون في القاهرة في القرن التاسع عشر يسافرون إلى الصعيد لشراء الآثار وتهريبها لأوروبا، كما حكى رفاعة الطهطاوي الشيخ الأزهري الَّذي اختاره محمد علي لِيكُونَ إمامًا لأول بعثة طلابيَّة مصريَّة إلى فرنسا، أنَّه لاحظ شغف الأوروبيين بالآثار الفرعونيَّة، وكيف امتلأت المتاحف الفرنسيَّة بمئات القطع الفرعونيَّة المنهوبة من مصر، فكتَب لمحمد علي باشا خطابًا يقول فيه «يدمِّر الأجانب الخرائب القديمة، ويأخذون منها الأحجار، وبعض المشغولات، ويصدرونها إلى بلادهم، فإذا استمر ذلك لن يبقى بمصر شيء من المخلفات القديمة، وأن الأوروبيين يشيدون أبنية خاصَّة بالعاديات، والأحجار المرسومة والمنقوشة وغيرها من تلك الأشياء، يحفظونها بعناية، ويعرضونها على أهالي البلاد والسياح الراغبين في مشاهدتها».
أعجب الوالي بالفكرة، وقرَّر تحويل جزء من مدرسة الألسن لمتحف لحفظ الآثار المصريَّة، وأمَر بمنع تصدير العاديات، الَّتي يتم العثور عليها في جنوب مصر، إلى خارج البلاد، وعيَّن مفتشين لحماية وجمع ونقل ما يتم العثور عليه من آثار في الصعيد إلى هذا المتحف، كما أنشأ مصلحة للآثار تنظِّم عمل بعثات الاستكشاف الأوروبيَّة الَّتي تنقِّب عن الآثار، وتولَّى رئاستها خبراء آثار أوروبيون.
عندما ضاق المتحف بالآثار، اقترح جاك دي مورجان مدير مصلحة الآثار على الحكومة المصريَّة في العام 1893 إنشاء متحف يليق بمكانة مصر الحضاريَّة. وبالفعل طرحت مسابقة دوليَّة لتصميم المتحف، وتم اختيار تصميم المعماري الفرنسي مارسيل دورنيون، وتولى النحات فرديناند فيفر نحت التمثالين الكبيرين اللذين يزينان مدخل المتحف، ووضع الخديوي عباس حجر الأساس في أبريل 1897، واكتمل البناء عام 1902، وتكلف الإنشاء (240) ألف جنيه مصري، وهو مبلغ ضخم بمعايير ذلك الزمان.
بعد قرابة مائة سنة، جمع وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني، لقاء مع المعماري الإيطالي الشهير فرانكو ريتشي، الَّذي بادره ساخرًا بسؤال عن «المخزن» يقصد المتحف المصري بالتحرير، الأمر الَّذي أثار غضب حسني ودفعه للرد قائلًا: سنشيد أكبر متحف في العالم بجوار الأهرامات، واندهش ريتشي وأبدى استعداده للمساعدة في التمويل، ويقول وزير الثقافة إنَّه كان يشعر بالصداع كُلَّما زار متحف التحرير؛ جرَّاء الضوضاء، وازدحام الطرقات بالقطع الأثريَّة الَّتي حوَّلت المتحف إلى مخزن كبير.
طرحت الفكرة على الرئيس الأسبق حسني مبارك، الَّذي تحمَّس لها، ولكنَّه تساءل عن التمويل، طمأنه فاروق حسني، وقال له إنَّ دول العالم ستتسابق على منح التمويل، لتقديرها الكبير للحضارة المصريَّة القديمة، وجاءت أفضل العروض من وكالة التعاون اليابانيَّة، «الجايكا» الَّتي سبق لها إهداء مصر دار الأوبرا، وقدَّمت قرضًا ميسَّرًا قِيمته (800) مليون دولار، وتحملت الحكومة المصريَّة باقي التكلفة، الَّتي بلغت (1.5) مليار دولار. وضع مبارك حجر الأساس للمتحف سنة 2002م، ولكن تعرض المشروع للتوقف، جرَّاء أحداث يناير2011م، وبداية من العام 2017م سرَّعت الحكومة المصريَّة وتيرة الإنشاء، حتَّى اكتمل البناء، وجاء الافتتاح في الأول من نوفمبر الجاري، بعد أكثر من (20) عامًا، بأيادٍ معظمها مصريَّة، وتكلفة تحمَّلها الشَّعب المصري رغم الظروف الاقتصاديَّة الصَّعبة الَّتي يمرُّ بها.
محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري