الاثنين 03 نوفمبر 2025 م - 12 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

كيف نحمي المستقبل؟

كيف نحمي المستقبل؟
الاثنين - 03 نوفمبر 2025 10:46 ص

إبراهيم بدوي


ما زلتُ مؤمنًا بأنَّ العالم قَبل جائحة كورونا (كوفيد-19) لم يَعُدْ هو العالم الَّذي كنَّا نعرفه، ولقد أشرتُ لذلك في مقال سابق، إلى أنَّ تلك الجائحة حملت ـ بجانب ما سبَّبته من آلام الفقد وترنح الاقتصاد ـ بداية تأريخ جديد للبشريَّة، فعالم ما بعد كورونا لا يُشبه ما كان قبلها، أقول ذلك وقد فوجئتُ أثناء الكشف على ابني أنَّ هذا الفيروس لا يزال يعيش بَيْنَنا، رُبَّما لم نَعُدْ نخافه كما كنَّا، لكنَّنا لم نتعافَ بعد من آثار تلك الجائحة العميقة. فالعالم الَّذي نجا من الفيروس لم ينجُ من نتائجه النفسيَّة؛ إذ تشير تقارير منظَّمة الصحَّة العالميَّة للعام الحالي 2025 إلى أنَّ أكثر من مليار إنسان حَوْلَ العالم يعانون من اضطرابات نفسيَّة، وأنَّ واحدًا من كُلِّ ستة يعيش مع حالة نفسيَّة مزمنة، بَيْنَما لا يتلقى ثلثهم أيَّ علاج أو دعم مناسب، قد يكُونُ الخطر البيولوجي قد تقلص أو لم يَعُدْ بخطورة الموجات الأولى، إلَّا أنَّ الخطر الإنساني ما زال ممتدًّا، حيثُ تحوَّل القلق والاكتئاب إلى ملامح صامتة في وجوه الناس، وصارت الذاكرة الجماعيَّة للعالم مثقلة بشعور لم يجدْ علاجًا حتَّى الآن. صحيح أنَّ كورونا ليست المتَّهم الوحيد، فهناك صراعات وحروب نشاهدها، وهناك فقر مدقع يتفاقم، لِتتكونَ في النهاية منظومة قهر جديدة تتقاسم روح الإنسان بَيْنَ الخوف والعوز.

حين نتأمل هذا الخطر الإنساني الممتد ندرك أنَّ العلاج لم يَعُدْ مسألة طبيَّة بحتة، فهو قضيَّة تمسُّ جوهر الإنسان في هذا العصر. فالتعامل مع آثار ما بعد الجائحة لا يقتصر على اللقاحات أو الفحوصات، فالجسد تعافى بَيْنَما بقيتِ النفْس عالقة في مساحة الخوف والقلق، ومن هذا الإدراك تتأكد أهميَّة أن يشمل التأمين الصحي العلاج النفْسي كجزء أساسي من منظومة الرعاية. فالصحَّة الحقيقيَّة تقوم على التوازن بَيْنَ الداخل والخارج، وتشير تقارير منظَّمة الصحَّة العالميَّة للعام 2025 إلى أنَّ أكثر من (720) ألف إنسان ينهون حياتهم سنويًّا بسبب الانتحار، وأنَّها أصبحت السبب الثالث للوفاة بَيْنَ الفئة العمريَّة من (15) إلى (29) عامًا، وهي الفئة الَّتي تصنع الحاضر وتمتلك مفاتيح المستقبل، وتتجلى خطورة الأمر في أنَّ العالم يفقد طاقته الحيَّة من داخله، حيثُ ينهار جيل كامل تحت وطأة القلق والتشتُّت، بَيْنَما يواصل الجميع الحديث عن التنمية دون أن يلتفت إلى الإنسان الَّذي يحملها.

تلك الأرقام الكارثيَّة لم تتمكن من رصد التأثيرات الكاملة للاكتئاب، ولا حجم استفحال العديد من الأمراض النفسيَّة الَّتي تتخفى خلف الأقنعة اليوميَّة للناس. فالألم النفْسي لا يقاس بعدد المرضى، ويقاس بمدى اتساع المساحة الَّتي يفقد فيها الإنسان شغفه بالحياة وقدرته على التواصل مع ذاته والآخرين، ويزداد هذا الانهيار النفْسي اتساعًا مع الإيقاع السريع للعصر، وضغط العمل، وتضاؤل العلاقات الإنسانيَّة في بيئة رقميَّة باردة، وتتحول المُدن الكبرى إلى ساحات عزلة جماعيَّة يعيش فيها الإنسان محاطًا بالضجيج دون أن يسمعه أحد. فالصمت الَّذي يسبق الانهيار أصبح جزءًا من المشهد اليومي، يتسلل إلى البيوت ومكاتب العمل والمدارس، ويُعِيد تشكيل مفهوم النجاح ذاته، حتَّى بات الإنسان يسير في سباق لا يعرف وجهته، سباق تغيب فيه المعاني وتضعف الروابط فتتآكل الروح شيئًا فشيئًا، ويخسر العالم ما هو أثمن من المال والإنتاج، يخسر توازنه الإنساني، ويتحول هذا الأثر النفْسي إلى جوهر التراجع الَّذي نشهده سياسيًّا واقتصاديًّا وتنمويًّا واجتماعيًّا؛ لأنَّ الإنسان المرهق لا يصنع حضارة ولا يحمي وطنًا ولا يبني مستقبلًا. إنَّ الدعوة إلى إلزام التأمين الصحي بإضافة العلاج النفْسي أضحت ضرورة واقعيَّة، فالعالم من حَوْلِنا يعيش حالة اختلال عميقة، والإنسان في موقع العمل أو في حياته اليوميَّة يحتاج إلى استعادة اتزانه النفْسي؛ كَيْ يتمكن من البناء والإنتاج والنُّمو، فالتنمية لا تزدهر في بيئة ينهكها القلق، والإبداع لا يولد في عقل يطارده الخوف، والاعتراف بالصحَّة النفسيَّة كحقٍّ إنساني لا يقلُّ شأنًا عن الحقِّ في التعليم أو السكن، هو الخطوة الأولى نَحْوَ مُجتمع متوازن يدرك أنَّ رفاه الإنسان أساس كُلِّ استقرار، وحين تصبح الرعاية النفسيَّة جزءًا من السياسات الصحيَّة والمؤسَّسيَّة، يتحول العلاج من استجابة للألم إلى استثمار في طاقة الإنسان نفسه، وتزداد أهميَّة هذه الخطوة في ظل التركيبات المعقدة من الأزمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة الَّتي باتت تحيط بالإنسان من كُلِّ جانب، فتضغط عليه وتختبر قدرته على البقاء متماسكًا وسط عالم يتغيَّر بسرعة تفوق طاقته على الفهم والاستيعاب، تلك هي البداية الحقيقيَّة لبناء مستقبلٍ أكثر هدوءًا وعدلًا، حيثُ تقاس قِيمة الأُمم بقدرتها على حماية إنسانها من الانكسار قبل المرض.

إبراهيم بدوي

[email protected]