الاثنين 03 نوفمبر 2025 م - 12 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

قيم الحوكمة: الشفافية والمساءلة والمصداقية فـي ممارسات التدقيق الداخلي

قيم الحوكمة: الشفافية والمساءلة والمصداقية فـي ممارسات التدقيق الداخلي
الأحد - 02 نوفمبر 2025 11:55 ص

د. يوسف بن خميس المبسلي

50

يسعى أغلب الدول لإيجاد أجهزة رقابيَّة مستقلَّة غير مرتبطة بالسُّلطة التنفيذيَّة، وتوفِّر لها الأدوات الَّتي تحتاجها للقيام بِدَوْرها الرقابي على المال العام. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ تحسين جودة الإدارة والرقابة يُسهم في رفع كفاءة الإنفاق العام وتعزيز أداء المؤسَّسات الحكوميَّة، الأمر الَّذي ينعكس إيجابًا على تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول ويُعزِّز من فاعليَّة سياساتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

ويُعَدُّ الفساد الإداري مُشْكلةً عالميَّة لا تقتصر على دولةٍ دون أخرى، إذ تتباين حدَّته تبعًا لقوَّة وكفاءة الأجهزة الرقابيَّة الماليَّة والإداريَّة في كشف أساليبه ومحاسبة مرتكبيه. وغالبًا ما يلجأ بعض الموظفين إلى إساءة استخدام السُّلطة التقديريَّة الممنوحة لهم بموجب القانون، لتحقيق منافع شخصيَّة تتعارض مع مبادئ النزاهة والمسؤوليَّة الوظيفيَّة. وتكمن أهميَّة الأجهزة الرقابيَّة في قدرتها على رصد مظاهر الفساد الإداري وكشفها من خلال متابعتها الدقيقة لمستوى الأداء، وتحديد مَواطن القصور ومجالات الخلل في العمل الإداري، بما يَضْمن تطبيق القوانين بعدالة وفاعليَّة، ويُسهم في ترسيخ مبادئ الشفافيَّة والمساءلة داخل المؤسَّسات الحكوميَّة.

إنَّ سلطنة عُمان قد أولت اهتمامًا بالغًا بِدَوْر جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة انطلاقًا من رؤية «عُمان 2040» من خلال أولويَّة التشريع، والقضاء، والرقابة. وتتبنى مبدأ وجود نظام رقابي فاعل مبني على مبدأ الشفافيَّة والإفصاح ويكافح الفساد، ويعمل على حماية المقدرات الوطنيَّة، ويحقِّق مبادئ المساءلة والمحاسبة. إذ يقوم الجهاز بِدَوْر مركزي في تقييم كفاءة وفاعليَّة الأداء بمختلف الوحدات الحكوميَّة والهيئات وبما يَضْمن أيضًا تجنُّب تضارب المصالح والمخالفات الماليَّة والإداريَّة.

ولعلَّ التقرير الأخير الصادر من جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة لملخَّص المُجتمع في التقرير السنوي لعام 2024 ما هو إلَّا تأكيد لِدَوْره الفاعل من أجل الإفصاح عن أهمِّ حالات التجاوزات والتقصير لبعض الوحدات الخاضعة له. ووفقًا للتقرير يتضح أنَّ الجهاز نفَّذ (225) مهِمَّة، صدر عنها (172) تقريرًا ، بحيثُ نفَّذ (143) مهِمَّة بالوحدات الحكوميَّة و(82) مهِمَّة في الهيئات والاستثمارات والشركات. وخلال عام 2024 بلغ عدد الشكاوى والبلاغات (1378) بلاغًا وتصدَّرت أعلى نسبة من تلك الشكاوى والبلاغات بتجاوزات إداريَّة وماليَّة بنسبة (53%). إلَّا أنَّ الجهاز تمكَّن من تحصيل واسترداد مبلغ (58) مليون ريال عُماني. وإنَّ من أهمِّ القضايا العامَّة الَّتي تعامل معها الجهاز تتمثل في قضايا استغلال المنصب لتحقيق منفعة، وقَبول الرشوة للقيام بأعمال منافية للواجبات الوظيفيَّة، والتزوير المعلوماتي، والتزوير في محررات رسميَّة، واختلاس أموال عامَّة، والإخلال في أداء الواجبات الوظيفيَّة، والتعدِّي على المال العام.

وعلى الرغم من وجود دوائر للتدقيق الداخلي في مختلف الوحدات والهيئات الحكوميَّة، إلَّا أنَّها لم تتمكَّن في العديد من الحالات من كشف تلك التجاوزات ومظاهر التقصير. يدرك الجميع بأنَّ دوائر وأقسام التدقيق الداخلي يُلقَى على عاتقها دَوْرًا محوريًّا وحيويًّا في كشف حالات التلاعب والفساد داخل المؤسَّسات، وذلك من خلال تقييم فعاليَّة أنظمة الرقابة الداخليَّة، والتحقق من مدى الامتثال للقوانين واللوائح المعمول بها، وضمان دقة وسلامة السجلات الماليَّة. ويُسهم دَوْرها أيضًا في الوقاية من الاحتيال والكشف المبكر عن الأنشطة غير المشروعة، بما يُعزِّز من نزاهة العمل المؤسَّسي وكفاءة الأداء الحكومي. بل تُعَدُّ الرقابة الداخليَّة خطَّ الدفاع الأول في حماية الأموال العامَّة وضمان استخدامها الأمثل؛ لِمَا تُمثِّله من أداة فعَّالة في تطوير السياسات وتحسين الكفاءة الإنتاجيَّة داخل المؤسَّسات الحكوميَّة. ومن هنا تبرز أهميَّة رفع كفاءة دوائر وأقسام التدقيق الداخلي في مؤسَّسات القِطاع الحكومي للحدِّ من مظاهر التجاوز والتقصير في بعض الجهات.

ونسرد ثلاثة عوامل رئيسة تُسهم بصورة مباشرة في رفع كفاءة دوائر التدقيق الداخلي في المؤسَّسات الحكوميَّة، أوَّلها يتمثل في تأهيل المدققين الداخليين، وتطوير قدراتهم الفنيَّة في مختلف الوحدات الحكوميَّة لمواجهة الفساد الإداري. وفي هذا السياق، تبرز أهميَّة الشهادات المهنيَّة والاحترافيَّة المتخصصة في مجال التدقيق، حيثُ تسهم هذه الشهادات في رفع كفاءة المدققين وتعزيز مصداقيَّتهم وقدرتهم على رصد مؤشِّرات الفساد وتحليلها بدقَّة.

العامل الثاني هو تعزيز ثقافة النزاهة المؤسَّسيَّة حيثُ يُمثِّل هذا ركيزة أساسيَّة في دعم جهود التدقيق الداخلي وتفعيل دَوْره في مكافحة الفساد الإداري. إنَّ وجود بيئة عمل مؤسَّسيَّة تتبنى قِيَم الشفافيَّة والمساءلة والمصداقيَّة يُسهم في الوقاية من ممارسات الفساد قَبل وقوعها، ويُعزِّز من فعاليَّة أنظمة الرقابة الداخليَّة.

أمَّا العامل الأخير فهو تَبنِّي منهجيَّة التدقيق المبني على المخاطر، إذ يُعَدُّ خطوة استراتيجيَّة محوريَّة لتعزيز منظومة الحوكمة ومكافحة الفساد. تُمَكِّن هذه المنهجيَّة وحدات التدقيق الداخلي من توجيه جهودها ومواردها نَحْوَ المجالات والأنشطة الأكثر عرضة للمخاطر والانحرافات الإداريَّة والماليَّة. كما أنَّها تُسهم في تحقيق الوقاية المبكرة من الفساد الإداري والمالي، بدلًا من الاكتفاء بالكشف عن المخالفات بعد وقوعها.

فالدَّوْر الحديث للتدقيق الداخلي لم يَعُدْ يقتصر على اكتشاف الأخطاء، بل أصبح أداة استباقيَّة لتقييم مدى كفاءة أنظمة الرقابة الداخليَّة وتحديد الثغرات الَّتي قد تُستغل في ممارسات الفساد أو إساءة استخدام الموارد.

يُمكِن القول: إنَّ جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة يقوم بِدَوْر فاعل في ممارسة مهامه الرقابيَّة بكُلِّ استحقاق ومحل اهتمام وتقدير من الجميع. وتقرير «ملخَّص المُجتمع» الصادر من الجهاز يُعَدُّ أداة فعَّالة لترسيخ مبدأ الإفصاح والشفافيَّة.

وأخيرًا، لا يُمكِن إغفال أهميَّة الوازع الدِّيني والأخلاقي كعامل جوهري في تعزيز النزاهة الشخصيَّة والمؤسَّسيَّة. فالقِيَم الدينيَّة تُشكِّل درعًا داخليًّا يمنع الفرد من الانجراف نَحْوَ الفساد حتَّى في غياب الرقابة الخارجيَّة، حيثُ يغرس الالتزام الدِّيني والضمير الأخلاقي مفاهيم الأمانة، والعدل، والإخلاص في أداء العمل. كما يُسهم حسُّ المسؤوليَّة والانتماء المؤسَّسي في دفع الموظفين إلى أداء مهامهم بصدِق وشفافيَّة، وإدراك أنَّ المحافظة على المال العام ومصالح المؤسَّسة تُمثِّل أمانة ومسؤوليَّة أمام الجميع.

د. يوسف بن خميس المبسلي

كاتب وأكاديمي عماني