شابٌّ في بداية العشرينات يقفُ أمام (بنك النرويج) في العاصمةِ أوسلو.
يدلفُ بخطواتٍ واثقةٍ يشوبُها القلقُ في الوقتِ نفسه، ويطلبُ من الموظَّفةِ مقابلةَ أحدِ كبارِ المسؤولين في البنك.
يستقبلهُ الرجلُ الوقور، وبدونِ مقدِّماتٍ يطلبُ الشابُّ من الموظَّف الكبير «قوالبَ طباعةِ العملةِ النرويجيَّة، مضيفًا أنَّ هذا ما طلبته الحكومةُ النرويجيَّة في المنفى (بلندن)».
جاء ردُّ فعلِ الرجلِ فورًا بطلبه من الشابِّ مغادرةَ المكتب، فخطا الشابُّ باتِّجاه الباب، لكنَّه توقَّف فجأةً وعادَ ليقولَ للرجلِ بصوتٍ خافتٍ:
«هل تُريد أن يتحدَّث أحفادُك اللغةَ الألمانيَّة؟»
عبارةٌ حرَّكت الروحَ الوطنيَّة في داخلِ المسؤول المصرفي، الَّذي تعيشُ بلادُه تحت نيرِ الاحتلالِ الألماني منذ التاسع من نيسان/أبريل عام 1940، حين هاجم الألمان واحتلُّوا النرويج بعددٍ من الجنود لا يزيدُ على ثمانمئة شخص.
يحدجُ المسؤولُ المصرفي الشابَّ بنظرةٍ حادَّةٍ متسائلًا:
«وكيف لي أن أُصدِّقك؟»
ودون أن يُطيل في الحوار، كتبَ عبارةً على ورقةٍ وناولها للشَّاب، وطلبَ منه أن تُذيعها «إذاعةُ المنفى في لندن».
وضعَ الشابُّ الورقةَ في جيبه، وبعد مدَّةٍ استمعَ المسؤولُ المصرفيُّ إلى العبارةِ تتكرَّر عَبْرَ الأثير من لندن.
في حديقةٍ عامَّةٍ، يُسلِّمُ المسؤولُ قوالبَ طباعةِ العملةِ مع نماذجَ منها للشابِّ (المقاوم)، ممهلًا إياهُ أيامًا معدودةً لإعادتها.
يسارعُ الشابُّ الَّذي انخرطَ في صفوفِ المجاميعِ النرويجيَّة الَّتي بدأت تُقاومُ قواتِ الاحتلالِ الألمانيَّة.
هذه الأحداثُ يرويها الفيلمُ الصادرُ حديثًا بعنوان (الرقم 24)، وهو رمزُ هذا الشابِّ في قيادةِ المقاومةِ النرويجيَّة.
ليسَت الهجماتُ الشجاعةُ الَّتي شنَّها هؤلاء الشَّباب ضدَّ الغرباء الَّذين احتلُّوا بلادهم وألحقوا الأذى بأهلهم ومنشآتهم وكلِّ شيءٍ، ما يُسلِّطُ الفيلمُ عليه الأضواء، بل تقفزُ في ذاكرةِ المشاهدِ صورٌ وأفعالٌ كثيرةٌ بأشخاصٍ وأحداثٍ تحصلُ في زمنِ الاحتلال.
وبسهولةٍ، وجدتُ ذاكرتي تتَّقدُ بالكثيرِ منها، في مقدِّمتها أولئك الَّذين يسارعونَ إلى أداءِ الدَّوْر الأسوأ، بكُلِّ ما يكتنفهُ من عار، أولئك الَّذين يعملون «(مخبرين)» ضدَّ أهلهم وأبناءِ جلدتهم لدى الجلَّادين من وحوشِ الاحتلال.
ويُسمِّي رجالُ المقاومةِ النرويجيون هؤلاء الجواسيسَ عمومًا «(النرويجيين النازيين)» نسبةً إلى تعاونهم مع جيشِ الاحتلال الألماني.
يُبدعُ مخرجُ الفيلم جون أندرياس أندرسن، ليقفَ فيلمُه (Number 24) في مقدِّمةِ قائمةِ الأفلام الَّتي تتحدَّثُ عن تاريخِ الشعوبِ في مقاومتِها للمحتلين الغزاة.
ويظهرُ في الفيلم جونار سونستيبي، البطلُ الحقيقيُّ لقصةِ الفيلم، في لقطاتٍ يتحدَّثُ فيها بفخرٍ واعتزازٍ كبيرين عن المقاومةِ والمقاومين أمامَ الشَّبابِ النرويجيين، حيثُ سمعَ الغالبيَّة منهم، إن لم يكُنْ جميعُهم، عن بطولتِه وزملائه ضدَّ المحتلين الألمان في الفترة بَيْنَ 1940 حتَّى التحرير عام 1945.
وعلى الطرفِ الآخر، فإنَّ أحفادَ (النرويجيين النازيين) يُطأطئون رؤوسهم خجلًا من ذكرِ أيٍّ من أولئك الأجداد «الخونة».
طالما تردّدَ الشعوبُ أنَّ التاريخَ لا يرحم،
إلَّا أنَّ الكثيرين يسقطون في براثنِ الخيانة.
المجدُ لكُلِّ مقاومٍ ضدَّ المحتلينَ الغزاة.
وليد الزبيدي
كاتب عراقي