أيها الأحباب: وأما عن خصوصية الناصية بالذكر في كتاب الله، فيقول صاحب (جامع البيان):(قال أبو جعفر: يقول: إني على الله الذي هو مالكي ومالككم، والقيِّم على جميع خلقه، توكلت من أن تصيبوني، أنتم وغيركم من الخلق بسوء، فإنه ليس من شيء يدب على الأرض، (4) إلا والله مالكه، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ، فإن قال قائل: وكيف قيل: (هو آخذ بناصيتها)، فخص بالأخذ «الناصية « دون سائر أماكن الجسد. قيل: لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع، فتقول:»ما ناصية فلان إلا بيد فلان»، أي: أنه له مطيع يصرفه كيف شاء. وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه، جزُّوا ناصيته، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة، فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم، والمعنى ما ذكرت) (تفسير الطبري 15/ 363)، وقال بعض العلماء: آخذ بناصيتها لا تتوجه إلا حيث يلهمها، قال القتيبي: يقهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، والعرب كانوا إذا أسروا إنسانا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعتدوا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون (تفسير البغوي - إحياء التراث 2/ 453)، ويقول ابن عطية في (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 3/ 181):(المعنى: أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله:»ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» وعبر عن ذلك بـ(الناصية)، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفا في القدرة).
ومما يجدر بالذكر ويلفت النظر ما قاله الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) حيث يقول:(وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور آخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)، رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:(قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)، ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم) (تفسير القرطبي 9/ 52)، وذكر الناصية أيضاً في كتاب الله تعالى بصيغة الجمع، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (الرحمن ـ 41)، وقد اختلف المتأولون في قوله تعالى:(فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)، فقال ابن عباس: يؤخذ كل كافر بناصيته وقدميه فيطوى ويجمع كالحطب ويلقى كذلك في النار، وقال النقاش: روي أن هذا الطي على ناحية الصلب قعسا وقاله الضحاك، وقال آخرون: بل على ناحية الوجه، قالوا فهذا معنى:(فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)، وقال قوم في كتاب الثعلبي:(إنما يسحب الكفرة سحبًا، فبعضهم يجر بقدميه، وبعضهم بناصيته، فأخبر في هذه الآية أن الأخذ يكون بِالنَّواصِي ويكون بالْأَقْدامِ) (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ابن عطية 5/ 232).
وهنا سؤال يطرح علينا نفسه ألا وهو: ما وجه إفراد يؤخذ مع أن المجرمين جمع؟ سبحان الله يجيب الرازي فيقول «فيه وجهان أحدهما: أن الفعل يؤخذ وهو متعلق بقوله تعالى: بالنواصي كما يقول القائل ذُهب بزيد وثانيهما: أن يتعلق بما يدل عليه يؤخذ، فكأنه تعالى قال، فيؤخذون بالنواصي، فإن قيل: كيف عدي الأخذ بالباء، وهو يتعدى بنفسه، قال تعالى: نقول: الأخذ يتعدى بنفسه كما بينت، وبالباء أيضًا، كقوله تعالى:(تأخذ بلحيتي ولا برأسي) (طه ـ 94)، وكقوله:(لا يؤخذ منكم فدية) (الحديد ـ 15)، وكقوله:(خذها ولا تخف) (طه 21)، لكن في الاستعمال تدقيق، وهو أن المأخوذ إن كان مقصودًا بالأخذ توجه الفعل نحوه فيتعدى إليه من غير حرف، وإن كان المقصود بالأخذ غير الشيء المأخوذ حسًّا تعدى إليه بحرف، لأنه لما لم يكن مقصودًا فكأنه ليس هو المأخوذ، وكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه، فذكر الحرف، ويدل على ما ذكرنا استعمال القرآن وأفاد: الحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته، وقَهْره وسيطرته، ولا شيء يُفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم) (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير 29/ 367).. وللحديث تكملة.
محمود عدلي الشريف