الأربعاء 29 أكتوبر 2025 م - 7 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

العدول البلاغي «العدول فـي التشبيه ودوره الدلالي» «4»

الأربعاء - 29 أكتوبر 2025 02:08 م

العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية

يقول الله تعالى:(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة ـ 275)، فهم ـ كما وصفهم ربهم ـ لا يقومون، ولا ينهضون إلا كالسكارى الذين أصابهم مَسُّ الشيطان، فهم يتخبَّطون، ويترنَّحون يمنةً، ويسرةُ، لا يَقْوَوْنَ على القيام كمن أسكره الشرابُ، فصار كالثَّمِل الذي ضاع عقله، فلا يقوم، وإذا قام فإنه يتمايل لا يملك نفسه من أثر الخمر، وغياب العقل، كما يحدث للفقير الذي استدان بسبب فقره، فهو بالدين والربا قد قصم ظهره، وأتعبه الدينُ، فلا يقوى على القيام، وإذا قام داخ رأسُه، وتمايل حتى يقع على الأرض من أثر التفكير في عواقبِ الدين، ورباه الفاحش، فلم يَعُدْ يستطيع التفكير، وقد شلَّه ضِلَعُ الدَّيْنِ، وأقعده ثقلُ الحمل، فهو يتخبط ألمًا، وتفكيرا، ولا يجد من يحنو عليه من الناس، ولا مِنَ المرابي أن يخفِّفَ عنه بعضَ دينه الذي كاد يزيد على حجم الدين نفسه؛ لتأجيله المَرَّةَ بعد المرة بزيادة فاحشة، ومُرَّة، ويعاوده المَدِينُ الكرة بعد الكرة؛ طالبا تأجيل الدين، مقبِّلا يَدَيِ الدائنِ لعله يوافق على تأجيله بغير زيادة، ولكن دونما إفادة، بل مضاعفة الزيادة، ومع عجرفة، وكبر تضاعف آلام تلك الزيادة.

ثم حكى قولَهم المقلوبَ بالتشبيه المقلوب، متعلِّلين بذلك المعيار المعكوس، والقانون المنكوس (ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا)، وهو كلام جاهل لا يستقيم مع أقل نظرة، وأقربِ تفكير؛ ومن ثم رَدَّ الله عليهم قولهم، ودَمَغَهم في رؤوسهم العقيمة، وضرب أفئدتهم السخيمة، وفأد أفئدتهم المهينة بقوله:(وأحلَّ الله البيع وحرَّم الرِّبا) بتضعيف الراء في الفعل (حرَّم)؛ بيانًا لعمق التحريم، وشدته، وخطورة مَنْ يأتيه، ويسلكه، ويجعله ديدنه، وطريقه، ومهيعه، وسبيله، وأسلوبَ حياته، ونمطَ عيشه، وفي الحديث الشريف:(كلُّ جسمٍ نبتَ من سُحتٍ فالنّارُ أولى به)، ومن عَسَّرَ على مسلم عَسَّرَ الله عليه، ومن فضح مسلما فضحه الله يوم القيامة، ومن ترك رحمة العباد ترك الله رحمته به، وتركه لنفسه، وجعل فقره بين عينيه، مهما حصل من مال حرام، استجلب به الغضبَ يوم الحشر، والقيام.

وتوعَّد الله مَنْ يتعامل بالربا ـ بعدما عرف حكمه، وحكمته، ومخالفته البيع الحلال ـ بنقمته، وعذابه، وأنه مخلد في الجحيم، وذائب شحمًا ولحمًا في نيرانها، وأوارها، وأتونها، ولهيبها، وشدة إحراقها، يتقَحَّمُ فيها، فلا يقوى على نارها، وزقومها، كما كان الفقير في الدنيا لا يقوى على سداد ربا الدين، فضلًا عن الدَّيْنِ نفسه، فالجزاء من جنس العمل، أما مَنْ أقام لحُكْمِ الله في نفسه مكانتَه، وانتهى عن التعامل بالربا، فله ما كان قد فعل (فله ما سلف)، ثم يمضي أمرُه إلى الله: إنْ شاء عذبه، وإنْ شاء عفا عنه، فهو موكول لمن بيده العفوُ، والعقوبة، وهو الله ربُّ العالمين، وأما مَنْ عاد إلى التعامل بالربا، ولم يَرْعَوِ لحُكْمٍ، ولم يخش رَبًّا، ولا أقام للآخرة مقامًا، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، لا يخرجون منها، ولا هم يستعتبون، بل هم في عُمقها، وقعرها داخلون، وفي لهيبها محروقون، وفي اشتعالها باقون، بل هم حَطَبُها، ووقودُها، وما منها بمخرجين.

د.جمال عبدالعزيز أحمد 

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]