اعتادت المُجتمعات العربيَّة على أن يكُونَ للجريمة أسباب ـ وإن كان غير مسموح بارتكاب أيِّ جريمة لأيِّ سبب ـ إمَّا أن تكُونَ بداعي الشرف أو الثأر أو بسبب خلاف على شيء ما، وإمَّا أن تكُونَ الجريمة بلا هدف!! فهذا ما كنَّا نسمع عنه في المُجتمعات الغربيَّة الَّتي تنتشر فيها الجرائم إمَّا لأسباب عقائديَّة باطلة أو بسبب التأثير تحت المخدرات إلى آخره، لتنتقل هذه الظاهرة إلى المُجتمعات العربيَّة. ومؤخرًا انشغلت الصحافة بجريمة بطلها القاتل طفل عمره ثلاثة عشر عامًا وزميله القتيل ثلاثة عشر عامًا أيضًا. وبالبحث في أسباب الجريمة، نجد أنَّه لا هدف منها، خصوصًا أنَّه كان شجارًا بسيطًا وانتهى بالصلح بَيْنَهما، إلَّا أنَّ الطفل القاتل استدرج ضحيَّته وقام بقتله وتقطيع جثمانه بصورة بشعة، وانتشرت الأقاويل أنَّ تمثيل الجريمة بهذا الشكل ناتج عن مشاهدة ـ الدارك ويب ـ وأيضًا لمشاهدته لأحد أفلام الكارتون الَّتي تبث على اليوتيوب والَّتي في أحدها قامت بطلة المسلسل الكارتوني بتنفيذ جريمة مشابهة لِمَا فعله المتَّهم وهو الطفل ـ حوالي 13 عامًا ـ الَّذي تمَّ حبسه احتياطيًّا لمدة (15) يومًا على ذمَّة التحقيق؛ لاتهامه بقتل زميله وتقطيعه باستخدام منشار كهربائي داخل منزل، بعد أن استدرج المتَّهم زميله إلى المنزل عقب مشادَّة بَيْنَهما، ثم قام بقتله بمنشار والده، وبعدها أخفى أجزاء الجثة في عدَّة أماكن مختلفة. وقال الطفل المُتَّهم إنَّه «استوحى طريقة القتل من فيلم أجنبي شاهدَه عَبْرَ الإنترنت» والَّذي تضمَّن مشاهد عنيفة. وتذكرنا هذه الجريمة بجريمة أخرى ارتكبت في نفس المحافظة نوفمبر 2021، حيثُ إنَّ شخصًا ذبح آخر بساطور، ثم قطع رأسه وتجوَّل به في الشارع أمام المارَّة، وأنَّه لم يكُنْ وراء الجريمة أيُّ مبرِّر لأيِّ دافع تقليدي (كسر علاقة، أو خلاف عادي) وهنا تظهر جرأة الفاعل الَّذي حسب شهود كان سابقًا يتمتع بسمعة طيِّبة.. وهنا يظهر تعريف أنَّها «جرائم بلا هدف» أو «جرأة مرتفعة»؟ لأنَّ النمط في الحالتين ليس مجرَّد سرقة أو خلاف بسيط، بل فعل عنف شديد مسبق التخطيط، مع استعراض متعمد للجريمة أمام العامَّة في الحالة الثانية. هذا يطرح مسألتين أولًا: مدى شعور الجاني «بالإفلات» أو عدم الخوف من الملاحقة أو الرَّد المُجتمعي. ثانيًا: التأثير النفسي والثقافي حين يرى بعض الأشخاص أنَّ العنف صار «مبرَّرًا» أو «مفتوحًا» أمام الجميع، فإنَّ مستوى الخوف المُجتمعي يتراجع، والجريمة قد تُصبح أقل «احتكاكًا بالخوف» من المُجتمع أو من القانون، كما أنَّ تداول مقاطع العنف بسرعة على وسائل التواصل قد يُعزِّز ظاهرة «الجرأة» أو التحريض؛ بمعنى أنَّ الجريمة «تُعرض» وليس فقط تُرتكب.
وهنا يظهر مصطلح «الدارك ويب» وهو يُشير إلى جزء من الإنترنت لا يصل إليه المستخدم العادي عَبْرَ محركات البحث التقليديَّة، ويُستخدم غالبًا لأنشطة غير قانونيَّة (تجارة سلاح، مخدرات، بيانات سرّيَّة، جريمة) مع محاولات إخفاء الهُوِيَّة، وربطت التقارير بجريمة قتل الطفل بطريقة بشعة بغرض «بيع الفيديو على الدارك ويب»، ممَّا يشير إلى استقطاب الشباب عَبْرَ «فضول» دخول هذه الشبكات، أو عَبْرَ مغريات خفيَّة، ممَّا قد يزيد من تأثيراتها النفسيَّة أو السلوكيَّة عَبْرَ تحفيز العنف بأنَّ الجريمة أو مشهد العنف يُمكِن أن يُسجَّل ويُباع أو يُشاهد، فتتحول الجريمة من فعل فردي إلى عرض أمام الجمهور، ممَّا يُعزِّز «الجرأة»، كما أنَّ إحساس المشاهد، الَّذي يتحول فيما بعد إلى مرتكب جريمة، بأنَّه أقل مراقبة أو أقل احتمالًا أن يُكتشف، ممَّا قد يسهّل ارتكاب جرائم أكثر شدَّة أو تجسيدًا. وتأتي أسباب هذه الجرائم إمَّا لضعف بعض ضوابط المراقبة أو الرقابة المُجتمعيَّة أو الإعلاميَّة مع التغيُّرات الاجتماعيَّة والنفسيَّة لشباب أكثر تعرضًا للفراغ، أو للتأثُّر بالإنترنت والمحتوى العنيف، أو لدَيْهم اضطرابات نفسيَّة كإدمان المخدرات؛ لذلك ينبغي تعليم الشباب وأولياء الأمور حَوْلَ مخاطر الدخول غير المراقب إلى الإنترنت، خصوصًا «الدارك ويب» أو المحتوى العنيف، ومخاطر الفضول غير الموجَّه، وتعزيز الرقابة والتدخل المبكر مع الرقابة على منصَّات التواصل بَيْنَ الجهات المختصَّة لمتابعة ما يُنشر من جرائم أو مشاهد عنف، لمنع «ترويج الجريمة» كعرض. حمَى الله مُجتمعاتنا العربيَّة من مفاسد لم تكُنْ في قاموس حياتنا اليوميَّة، وجاءت عَبْرَ منصَّات قصد بها تدمير شباب أُمَّتنا.
جودة مرسي
من أسرة تحرير «الوطن»