الخميس 30 أكتوبر 2025 م - 8 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

الصين ونظام عالمي جديد

الصين ونظام عالمي جديد
الأربعاء - 29 أكتوبر 2025 11:02 ص

د.أحمد مصطفى أحمد

20


بنهاية القرن الماضي شددت الولايات المُتَّحدة قيود التصدير على أشباه الموصلات لضمان الهيمنة على التطور التكنولوجي باستخدام الرقائق الإلكترونيَّة. وعدَّت تلك الإجراءات جزءًا من نظام تجاري واقتصادي عالمي تقوده أميركا ولا تسمح لغيرها بأن يتجاوزها في مجال الريادة التكنولوجيَّة. كان ذلك شكلًا من أشكال الحمائيَّة للهيمنة الأميركيَّة في ظل توسع العولمة الاقتصاديَّة والتجاريَّة. تركز التغطيات الإعلاميَّة للحرب التجاريَّة الحاليَّة بَيْنَ أكبر اقتصادين في العالم على رد الفعل الصيني على الإجراءات الأميركيَّة بفرض التعريفة الجمركيَّة وتشديد القيود والعقوبات. وتلقي الضوء على فرض الصين قيودًا على تصدير معادن الأرض النادرة الضروريَّة للصناعات التكنولوجيَّة والَّتي تتحكم بها عالميًّا. لكن ما تفعله الصين في الواقع يتجاوز مجرَّد الإجراءات الانتقاميَّة في صراعها التجاري مع أميركا، فكأنَّما السُّلطات الصينيَّة ترسِّخ لمنظومة مختلفة من قيود التصدير وقواعد ضبط سلاسل التوريد بشكلٍ يبدو أنَّه جزء من بناء نظام تجاري عالمي جديد يتجاوز الهيمنة الأميركيَّة.

معروف أنَّ الصينيين على مدى عقود، ومنذ تحقيق نمو اقتصادي هائل جعل اقتصادهم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، يعملون على زيادة نفوذهم عالميًّا لكن دون أيِّ تحدٍّ للهيمنة الأميركيَّة أو إبداء الرغبة الواضحة في تغيير النظام الاقتصادي والتجاري العالمي. إنَّما الواقع أنَّهم بالفعل كانوا يغيِّرون ذلك النظام بالفعل لا بالقول أو التصريحات الدعائيَّة. وتعتمد استراتيجيَّة الرئيس الصيني الحالي تشي جين بينج على ترسيخ شكلٍ جديد لسلاسل الإمداد والتوريد بما يجعل الصين أقل اعتمادًا على الخارج، وفي الوقت نفسه تجعل بقيَّة العالم أكثر اعتمادًا عليها. تعتمد بكين في ذلك على أنَّ اقتصادها أصبح الشريك التجاري الأكبر لنَحْوِ ثلث دول العالم باعتباره مركز التصنيع الأكبر عالميًّا. وبدأت منذ فترة تطوير قدراتها التكنولوجيَّة وفي الصناعات الدقيقة بشكلٍ ذاتي؛ كَيْ لا تؤثِّر فيها كثيرًا عقوبات وقيود أميركيَّة وغربيَّة. وذلك ما جعلها قادرة للردِّ على إجراءات الإدارة الأميركيَّة الحاليَّة بالمثل: تفرض واشنطن رسوم تعريفة جمركيَّة على صادرات الصين فتردُّ بكين بفرض تعريفة جمركيَّة على صادرات أميركا وهكذا.

على الرغم من كُلِّ ذلك، تحرص الصين على ألَّا يصل الصراع بَيْنَها وبَيْنَ أميركا إلى حدِّ القطيعة وفقدانها للسوق الأميركيَّة الهائلة لصادراتها. وبالتَّالي هي تتصرف دومًا بشكلٍ محسوب في الردِّ بالمثل على أيِّ إجراء أميركي ضدها في سياق الحرب التجاريَّة الحاليَّة. لكن ذلك لم يمنع كثيرين حَوْلَ العالم، وخصوصًا في منطقتنا العربيَّة، من المبالغة في تقدير الصعود الصيني والأفول الأميركي. قد يكُونُ بعض من ذلك من باب «التفكير بالتمنِّي» لِمَن يرغبون في نهاية الهيمنة الأميركيَّة والنظام العالمي الَّذي تقوده كقوَّة عظمى وحيدة. إلَّا أنَّ هناك أيضًا بعض المؤشِّرات العمليَّة على أنَّ النفوذ الأميركي يتراجع، بِغَضِّ النظر عن صعود النفوذ الصيني أو ما إذا كانت بكين تريد ترجمة قوَّتها الاقتصاديَّة إلى نفوذ سياسي عالمي.

قبل نَحْوِ عَقد من الزمن، أطلقت الصين نظامًا للمعاملات الماليَّة من مدفوعات وتحويلات بديلًا لنظام «سويفت» الَّذي تهيمن عليه أميركا ويعتمد الحسم فيه على الدولار الأميركي. ذلك بعد عام واحد من إطلاق روسيا نظاما آخر عقب ضمها شِبه جزيرة القرم تحوطًا لعقوبات تمنع وصول موسكو إلى النظام العالمي للمعاملات الماليَّة الأكبر والأكثر شيوعًا. لكن النظام الروسي، الَّذي يعتمد الحسم بالروبل، ظل محدودًا باعتبار الدول والكيانات الماليَّة المشتركة فيه. أمَّا النظام الصيني (سي آي بي إس) الَّذي يعتمد على اليوان ويخضع لبنك الشَّعب المركزي فأخذ في التوسُّع لتنضم إليه كيانات ماليَّة كبرى مثل مجموعة (اتش اس بي سي) وغيرها وأغلب دول العالم تقريبًا. وفي ربيع هذا العام وصل عدد الدول المشاركة في النظام الصيني إلى (200) دولة، وبدا واضحًا أنَّ جهود الصين لتقليل الاعتماد على الدولار في تجارتها وتعاملاتها الماليَّة الخارجيَّة وصلت إلى مرحلة حرجة. خصوصًا في الوقت الَّذي تشهد فيه العملة الأميركيَّة تراجعًا مستمرًّا في قِيمتها بفضل سياسات الإدارة الأميركيَّة الحاليَّة.

ينظر البعض أيضًا إلى شراء المركزي الصيني للذهب بكميَّات كبيرة ليحلَّ محلَّ الأُصول الدولاريَّة في الاحتياطيَّات الصينيَّة على أنَّه تحوُّل مقصود لضرب الهيمنة الأميركيَّة على النظام النَّقدي العالمي. ويذهب هؤلاء في تحليلاتهم إلى أنَّ بكين تعمل حثيثًا على بناء نظام نقدي عالمي بعيدًا عن الدولار الأميركي يعتمد على العملة الصينيَّة أو نسخة رقميَّة منها لكن مدعومة بأصلٍ مادِّي هو الذهب. رغم أنَّ كُلَّ تلك التحليلات والآراء لا تخلو من مقدِّمات فعليَّة على الأرض، إلَّا أنَّه استنادًا إلى سلوك الصين على مدى عقود يُمكِن إرجاع كُلِّ تلك التطورات والجهود الَّتي تقوم بها لفكِّ الارتباط مع الدولار وإطلاق نظم وقواعد مختلفة إلى أنَّها على سبيل التحوُّط. فالتوسُّع الأميركي والغربي في فرض العقوبات الاقتصاديَّة على مَن يختلفون معه من الدول وما حدَث من تجميد للأُصول الروسيَّة الدولاريَّة بمئات المليارات بسبب حرب أوكرانيا دفع دول العالم كُلَّها تقريبًا للحذر والتحوُّط. وفكّ الارتباط مع الدولار ليس توجُّهًا صينيًّا فحسب، بل تعمل عليه أكثر دول العالم. كما أنَّ شراء البنوك المركزيَّة للذهب في تصاعد من قِبل الجميع أيضًا كملاذ آمِن للثروة في ظل اضطراب النظام العالمي بسبب السياسات الأميركيَّة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]