يُشكِّل القِطاع السياحي أحَد أهمِّ المحرِّكات الرئيسة للاقتصاد الوطني، فقد أضحى صناعة واعدة ومجالًا إنتاجيًّا واسع التأثير، ويُسهم في تنويع مصادر الدخل وتنشيط الأسواق المحليَّة، وتعزيز حركة الخدمات والاستثمار في مختلف المحافظات. ويُعَدُّ توقيع (36) عَقد حقِّ انتفاع بقيمة (100) مليون ريال خطوة تعكس عُمق الرؤية التنمويَّة الَّتي تجعل من الاستثمار السياحي أداة فاعلة لتوزيع الفرص بعدالة على خريطة الوطن، وهو ما يرسخ مفهوم اللامركزيَّة التنمويَّة ويحوِّل كُلَّ مشروع جديد إلى مركز إشعاع اقتصادي، يربط المُجتمع المحلِّي بِدَوْرة الإنتاج الوطني، فتتحول القرى والولايات إلى محرِّكات تنمويَّة تُسهم في خلقِ فرص عمل جديدة، وتحفِّز الابتكار في الخدمات.. فالسياحة هنا تُمثِّل مشروعًا وطنيًّا يربط الإنسان بالمكان عَبْرَ استثمار الموارد الطبيعيَّة والتاريخيَّة والثقافيَّة، ويحوِّلها إلى قِيمة اقتصاديَّة مستدامة تُعزِّز الانتماء، وتمنح التنمية معناها الإنساني العميق، لِتصبحَ السياحة رافدًا اقتصاديًّا وشريانًا اجتماعيًّا يغذِّي المحافظات بروح المشاركة، ويُعِيد تشكيل الخريطة التنمويَّة على أُسُس من التوازن والعدالة.
ويتجلى هذا التوجُّه التنموي بوضوح في توزيع المشروعات السياحيَّة على امتداد المحافظات، حيثُ تتقدم كُلُّ منطقة بمُقوِّماتها الخاصَّة لِتكُونَ شريكًا في بناء منظومة سياحيَّة متكاملة. فالمشروعات الَّتي شملت مسقط والداخليَّة وشمال الشرقيَّة وظفار وجنوب الباطنة وغيرها تُمثِّل ترجمة عمليَّة لفكرة التنمية المكانيَّة الَّتي تقوم على استثمار تنوُّع الجغرافيا العُمانيَّة كعنصر قوَّة اقتصادي. كما أنَّ توزيع العقود يُعِيد تعريف مفهوم التنمية من مركزيَّة العاصمة إلى شمول الأطراف، لِتتحولَ الجبال والسهول والسواحل والواحات إلى نقاط جذب سياحي واقتصادي، لِيخلقَ الانتشار المتوازن شبكة من الوجهات الَّتي تغْني التجربة السياحيَّة، وتُعزِّز تماسك الاقتصاد المحلِّي؛ ذلك أنَّ كُلَّ مشروع جديد يُضيف حلقة في سلسلة التنمية الَّتي تنسجها سلطنة عُمان برؤية تعتمد على تكامل المكان والإنسان، لِتصبحَ السياحة وسيلة لإحياء الموارد الطبيعيَّة والثقافيَّة ضِمن دَوْرة إنتاج وطنيَّة مستدامة.
ولعلَّ أبرز ما يُميِّز التوجُّه الجديد هو عُمقه المُجتمعي الَّذي تسعى من خلاله وزارة التراث والسياحة إلى تمكين المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة لِتكُونَ جزءًا فاعلًا في سلاسل القِيمة السياحيَّة. فالمسار الجديد يفتح أمام روَّاد الأعمال والأُسر المنتِجة مجالات واسعة للمشاركة في تشغيل المرافق، وتقديم الخدمات المحليَّة الَّتي تثري التجربة السياحيَّة، وتمنحها هُوِيَّتها الإنسانيَّة الأصيلة. فالسياحة تنمو بجهود النَّاس الَّذين يعكسون روح المكان ويحوِّلون التراث إلى مورد حيٍّ يُضيف قِيمة اقتصاديَّة وثقافيَّة في الوقت نفسه. ومشاركة المُجتمعات المحليَّة في إدارة المشاريع تُعزِّز العدالة في توزيع العائد، وتُبقي التنمية داخل بيئتها الطبيعيَّة، لِتتحولَ السياحة إلى رافعة اجتماعيَّة تخلق فرصًا حقيقيَّة، وتَبْني وعيًا وطنيًّا يدرك أنَّ الحفاظ على الهُوِيَّة هو الطريق الأصدق نَحْوَ الاستدامة.
إنَّ ما يتحقق اليوم في القِطاع السياحي يجسِّد رؤية وطنيَّة تجعل من التنمية مشروعًا يحمل روح الهُوِيَّة، ويُعَبِّر عن وعي اقتصادي واجتماعي متكامل. فالمشروعات الَّتي تنتشر على امتداد المحافظات ترسم ملامح تجربة متفردة تقوم على التوازن بَيْنَ الأصالة والمعاصرة، وتُحوِّل الجغرافيا إلى طاقة إنتاجيَّة تروي قصَّة المكان، وتستثمر موروثه في بناء المستقبل، والوجهات السياحيَّة الجديدة تقدِّم صورة متكاملة للوطن كدولةٍ تمتلك مُقوِّمات حضاريَّة تجعل من بيئتها موردًا مستدامًا، ومن تراثها لُغة عالميَّة للتعارف والتفاهم، ما يؤكِّد أنَّ التنمية الحقيقيَّة تنبع من الإنسان العُماني الَّذي يصنعها ويحافظ على روحها، لِيبقَى القِطاع السياحي شاهدًا على قدرة الوطن على تحويل ثرواته الطبيعيَّة والثقافيَّة إلى قوَّة ناعمة تُعزِّز حضوره الإقليمي والدولي، وتُكرِّس عُمان كوجهة تنمو بالوعي قَبل أنْ تنموَ بالأرقام.