 
                    قد يكون الألم أحيانًا طريقًا إلى الشفاء، والصدمة بوابة إلى النور. فبين لهب الكي وصعقة الكهرباء، تتجلى حكمة الجسد والنفس في استعادة توازنهما حين تهتز قوى الحياة في الإنسان، دأب الإنسان منذ فجر التاريخ يبحث عن وسائل تعيد له توازنه الجسدي والنفسي، فتنوّعت طرائق العلاج بين الأعشاب والنار والماء والكهرباء، لكنّ بعضها استمر أكثر حضورًا ودهشة في الوقت نفسه، مثل العلاج بالكي والعلاج بالصدمة، ورغم اختلاف أدواتهما، يجتمعان في فلسفة واحدة تقوم على أن الصدمة قد تكون مدخلا إلى الشفاء، وأن الألم أحيانًا هو الباب إلى النور، يروي أحد معارفي قصة طريفة وعميقة الدلالة: كان رجل من أقاربه يعاني من حازوقة مزمنة (الشهقة) واستمرت معه لفترة طويلة، قصد خلالها أطباء كثر، وتناول أدوية كثيرة لكن دون جدوى، وأخيرًا نصحه أحد أبنائه بزيارة معالجة شعبية في صلالة، تمارس العلاج بالكي. فقامت بوضع سيخ من الحديد داخل جمر من النار حتى صارت تلك القطعة مثل عود من النار، فأمشتها بقماش من طرفها ثم كوته بها على صدره وهو متسمر من بين الألم والخوف والرجاء. وكانت النتيجة أن توقفت الحازوقة نهائيًا، ولم تعد إليه أبدًا، تذكّرت تلك الواقعة عندما درست في مرحلة البكالوريوس مادة «العلاج بالصدمة» في علم النفس. فالكي في جوهره علاج صَدَميّ حراري؛ إذ يوقظ في الجسد قوى الشفاء الكامنة عبر استجابة عصبية مفاجئة. والشيء ذاته يحدث في العلاج النفسي الحديث عندما يتعرض المريض لصدمة كهربائية محسوبة (ECT) لإعادة تنظيم النشاط العصبي في الدماغ، بل إن مفهوم «الصدمة العلاجية» أوسع من ذلك؛ إذ يشمل المواقف المفاجئة التي توقظ غريزة الحياة، فقد وردت في الدراسات حالات شفاء من الشلل الوظيفي بعد أن تعرض مريض لموقف مهدد للحياة، كأن يُدفع كرسيه المتحرك بقوة فجأة إلى بركة ماء عميقة فينهض إنقاذا لنفسه. وفي أحد مستشفيات بكندا، أُجري اختبار على مرضى في غيبوبة جزئية، فأُطلق جرس الإنذار فجأة، فقام عدد منهم من أسرّتهم متحركين نحو النجاة. إنها القوة الكامنة التي تستيقظ حين تُستثار بالطاقة المفاجئة. من هنا، يمكن القول إن العلاج بالكي والعلاج بالصدمة ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، فالأول يستخدم نارًا تحرق الألم لتوقظ الجسد، والثاني يوظف كهرباء توقظ النفس من سباتها، وكلاهما يعبران عن مبدأ التحول عبر الألم، وهو مبدأ جوهري في علم نفس الاستنارة الذي يرى أن الصدمات ليست دائمًا نقمة، بل قد تكون نعمة توقظ الوعي وتعيد الإنسان إلى نوره الداخلي، إن النار التي تكوي الجسد، أو البرق الذي يصدم الدماغ، كلاهما يحملان رسالة رمزية تقول: إن الشفاء لا يحدث إلا حين يُوقظ الإنسان من غفلته، ويواجه ألمه بشجاعة، فيتحول الألم إلى طاقة، والصدمة إلى وعي، والنار إلى نور.
د ـ أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية
 
                    