ما من شك بأنَّ مظلة التنمية والتطوير في سلطنة عُمان تشهد ـ بفضل الله تعالى والرعاية السامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم حفظه الله ـ تطورات متتالية وتحوُّلات واسعة كمًّا وكيفًا بهدف تحقيق حياة كريمة للمواطنين. وتشكِّل الأحياء السكنيَّة المنتشرة في ولايات سلطنة عُمان ومحافظاتها القديمة منها والحديثة والمخططات الجديدة الواجهة الحضاريَّة لأيِّ تطوير تنموي يرفع من سقف التحضر العمراني، فإنَّ النهضة العمرانيَّة الَّتي تشهدها جميع الولايات والمحافظات نتاج لهذا التحول. غير أنَّ شعور المواطن بأنَّ جهود التطوير والتنمية تحقِّق غاياتها السامية وأهدافها الطموحة بحاجة إلى جهد آخر تقوم به المؤسَّسات كُلٌّ في مجال اختصاصاته. وعندما نتحدث عن الأحياء السكنيَّة تضعنا بالذكر أمام جهود المؤسَّسات ذات الصلة بالتخطيط العمراني والحضري والنقل والاتصالات والمواصلات والطرق والأعمال البلديَّة بتفاصيلها الدقيقة، والَّتي بات تحققها بصورة متكاملة مطلبًا حيويًّا وأولويَّة يَجِبُ أن تضعها هذه المؤسَّسات في خطط التطوير حتَّى يهنأ المواطن في عيشة ويشعر بأنَّه قد تحققت له ضرورات الحياة وضرورات السكن. فالتطور العمراني الَّذي تشهده كُلُّ ولايات عُمان ومُدنها يتطلب أن يوازيه تحوُّل نوعي في آليَّة وسرعة وكفاءة تقديم الخدمات الضروريَّة لهذه المساكن والمنازل السكنيَّة، خصوصًا في ظل التمدد العمراني وانتشاره الواسع وإيصال خدمات المياه والكهرباء والاتصالات لم تَعُدْ ترفًا، بل ضرورة وأولويَّة يَجِبُ أن تدرك، ومع التقدير للجهود المبذولة في الفترة الأخيرة في سرعة إيصال خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات؛ إلا أن الكثير من الأحياء السكنيَّة في المحافظات وفي قلب محافظة مسقط ينقصها الجزء الآخر من المعادلة وهي: خدمات الطرق والواجهات التجميليَّة والحضاريَّة والإنارة وخدمات الأمن والسلامة، فالكثير من الأحياء السكنيَّة يعاني السكان فيها من استخدام الطرق الترابيَّة وغير الممهدة لمسافات طويلة لا تقلُّ في بعض الأحياء عن (10) كيلومترات ذهابًا وإيابُا، ودَوْر المحافظات ممثلة في الشؤون البلديَّة فيها في متابعة ورصد وتشخيص هذه الحالات، ناهيك عن أنَّ الكثير من هذه الأحياء تعاني من غياب الإضاءة من طُرقها المعبَّدة ما يعكس حالة من عدم الارتياح لدى السكان، ناهيك عن الكثير من الأمور الَّتي تتطلب من الجهات المعنيَّة الوقوف عليها وفْقَ خطَّة تأهيل وتطوير تشكّل جميع الأحياء السكنيَّة، مسألة تطوير الأحياء السكنيَّة لم تقف عند الشوارع الداخليَّة، بل اتسعت لملفات أخرى فزيادة الاحتياج اليومي نظرًا للكثافة السكانيَّة وغياب الرصد والمتابعة المباشر لاحتياجات هذه الأحياء، نتج عنه تغييبها من بوصلة الاهتمام وأولويَّات التطوير ما وجود وانتشار الحفر الواسعة في بعض الشوارع الداخليَّة في الأحياء السكنيَّة وتقاطعات الموت في كثير من هذه الأحياء وما باتت تسبِّبه من كوارث مروريَّة شبه يوميَّة، وعدم وجود الإنارة أو صعوبة وعدم كفاءة المداخل والمخارج وغياب الاهتمام بالاختصارات الَّتي تربط بَيْنَ الأحياء السكنيَّة للحدِّ من الازدحام المروري وتسهيل حُريَّة وحركة التنقل، وغياب المسطحات الخضراء أو غيرها أو معاناة الأهالي من وقوف المركبات الكبيرة وبأعداد هائلة داخل الأحياء السكنيَّة والسيَّارات المهملة أمام بعض المنازل وأمور أخرى باتت تضع المواطن أمام كومة من التراكمات في البحث عن مخرج لحلِّ المُشْكلة ناهيك عن القلق والانزعاج الناتج عن وجود بعض العمالة الوافدة أو التفحيط بالمركبات في أوقات متأخرة من الليل أو تربية الكلاب أو غيرها.
والسؤال المطروح: هل يَجِبُ على المواطنين كتابة عريضة مطالبهم وتوقيعاتهم باحتياجات الحي السكني من الخدمات الأساسيَّة أو معالجة بعض الظواهر السلبيَّة؟ وما الآليَّات الَّتي تعتمدها الجهات التنفيذيَّة الإسكانيَّة والبلديَّة وغيرها في تشخيص احتياج هذه الأحياء السكنيَّة من الخدمات الأساسيَّة؟ وهل من تفكير خارج الصندوق في ظل ما يشهده العالم من توجُّهات نَحْوَ المُدن الذكيَّة وجودة حياة المُدُن في إضافة بعض النكهات الجماليَّة الأصيلة في الأحياء السكنيَّة في مدينة مسقط وغيرها؟ وهل هذا الأمر (رفع المطالب للجهات الخدميَّة) هو اختصاص المواطن مع ما يصاحبه من عدم تجاوب أو تجاوب خجول من الجهات المختصة أو تجاهل مطالب المواطنين، وما قد يحصل من تعنُّت وتجاهل من بعض القائمين على تنفيذ هذه الخدمات والاكتفاء بالردِّ بقولهم «إنَّ هناك خطَّة تقوم بها البلديَّة في الأمر وتحتاج إلى وقت.. لكن كم الوقت غير محدَّد قد يصل لعشرات السنين وهو الحاصل، وأبسط مثال على ذلك أنَّنا نطالب بنقل سوق السيَّارات المستعملة منذ أكثر من (10) سنوات وما زال السكان بانتظار تحرُّك الجهة المعنيَّة لمطالبهم المباشرة أو عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعيّ وقنوات الإعلام والصحف لحدِّ كتابة هذا المقال، وكأنَّ مسألة التطوير والتحديث قائمة على مزاجيَّة المسؤول.
وانطلاقًا من مفهوم الحكومة ومساراتها ومستهدفات رؤية «عُمان 2040» تأتي أهميَّة تَبنِّي سياسات أكثر نضجًا وتفاعلًا في رصد احتياجات الأحياء السكنيَّة من الخدمات الضروريَّة لضمان تحقيق بيئة إسكانيَّة حديثة تتسم بالأريحيَّة والاستقرار النفسي وجودة الحياة، بحيثُ تتبنى الجهات المختصَّة مسارًا عمليًّا وفْقَ خطَّة محدَّدة في عمليَّة تنفيذ هذه المطالب في إطار الأولويَّات والقِيمة المضافة وتشخيص الحالة في اتساعها وشموليَّتها وعُمقها والتعاطي مع المتطلبات من الخدمات البلديَّة والإسكانيَّة والعمرانيَّة والتخطيطيَّة والتنظيميَّة والوقائيَّة وغيرها بمرونة ويُسر، مستفيدة من كُلِّ الفرص المتاحة في إدارة خريطة الطريق الَّتي تبرز في آليَّات عملها الداخليَّة وخططها العاديَّة والاستثنائيَّة وتقديرها لأولويَّات المواطن واهتماماته، وإيجاد أدوات تنفيذيَّة ومسارات عمل واقعيَّة لوضعها حيِّز التنفيذ، وإلزام لجان العمل الميدانيَّة المشكَّلة لتقصِّي الحقائق ودراسة الواقع في سرعة إنجاز مسؤوليَّاتها بإقرار مسار عمل مقنن يحدِّد نوع الخدمات الَّتي تحتاجها كُلُّ منطقة سكنيَّة، والتأثير الناتج عن تأخر هذه الخدمات على الاستقرار الإسكاني والتطور العمراني والأبعاد الأخرى المرتبطة بمعايير الذوق والمزاج العام والذوق الجمالي في التخطيط البلدي، ودرجة التنسيق المستمرة في زيادة حجم التناغم بشأن تقديم الخدمات وسرعة نقلها إلى حيِّز الممارسة، وتذليل الصعوبات والعقبات المفتعلة (الموازنة الماليَّة مثلًا) الَّتي قد تؤدي إلى تأخر تنفيذ هذه الخدمات، وما تعكسه الصورة الذهنيَّة المتولدة لدى المواطن في تأخر الجهات المعنيَّة في التعامل مع هذه المطالبات وتراكمها لأوقات متكررة، على قناعاته حَوْلَ المنجز الوطني ومدى اتساع الخدمات التنمويَّة وشموليَّتها، بل أيضًا في نظرته لمفهوم العيش الكريم والحياة المستقرة الَّتي يطمح إليها. ما يؤكد الحاجة إلى إعادة هيكلة هذا المسار، ووضوح آليَّات العمل الحكومي في التعاطي مع أولويَّات الأحياء السكنيَّة، وضبط ومراجعة آليَّات العمل الحكومي في طريقة توفير الخدمات، وإيصال خدماتها للمواطنين وطريقة رصدها لها، وتوظيف البيانات والإحصائيَّات والخرائط الطوبوغرافيَّة وغيرها بما يَضْمن تشخيصًا فعَّالًا لهذه الاحتياجات وإعادة ترتيبها وفْقَ معايير أكثر اقترابًا من قناعات المواطن واهتماماته. إنَّ من شأن وضوح آليَّات التشخيص والمتابعة والتقييم، ضبط كُلِّ الانحرافات الحاصلة في طريقة تقديم الخدمات الحكوميَّة وتوزيعها بالأحياء السكنيَّة في المحافظات.
أخيرًا، نعتقد بأنَّ العمل البلدي أساسه الشراكة والثقة في المواطن ورفع درجة التنسيق والتكامل بَيْنَ المؤسَّسات الطريق لبناء حوار مشترك مع المواطن وتعظيم القِيمة المضافة الناتجة عن التحوُّل الرقمي وتوظيف المنصَّات الاجتماعيَّة كأحد الأساليب الَّتي يفترض استخدامها في تشخيص الحالة الخدميَّة واحتياجات الأحياء السكنيَّة، فإنَّ تأكيد الجاهزيَّة المؤسَّسيَّة في التعامل مع احتياجات الأحياء السكنيَّة ورصدها أولًا بأول والوقوف عليها بدون الحاجة إلى تقديم عريضة توقيعات بمطالبات المواطن، سوف يؤسّس لمرحلة متقدمة من حوكمة العمل المؤسَّسي المعززة بالشراكة والاستدامة بما ينقل العمل المؤسَّسي من الاجتهاديَّة الفرديَّة إلى التأطير الجمعي، ومن العشوائيَّة إلى التخطيط والتنظيم المؤسَّسي، ومن الانطباعات الشخصيَّة والمزاجيات إلى الرصد الفعلي للاحتياجات والأولويَّات وفْقَ مسوحات واضحة وأنظمة رصد مقننة، تتسم بالعدالة والمهنيَّة والواقعيَّة، ومن الوعود بالتنفيذ إلى رسم خريطة عمل وخطَّة مسار مفصلة بزمن التنفيذ، وعندها سيدرك المواطن آليَّات حصوله على هذه الخدمات وحجم ما تشكِّله في خريطة التنمية المستدامة، فيؤصل فيه دافع التقدير والاعتراف، ويجد في بعض الانتظار محمدة لتقديم الخدمة بشكلٍ أفضل وبطريقة أجود.
د.رجب بن علي العويسي