الاثنين 27 أكتوبر 2025 م - 5 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

حين يفقد الإنسان حقه فـي الخطأ

حين يفقد الإنسان حقه فـي الخطأ
الاثنين - 27 أكتوبر 2025 11:04 ص

إبراهيم بدوي

10


أتابع تمدد الذكاء الاصطناعي بقلق متزايد، خصوصًا منذ أصبح طرفًا مباشرًا في مجالات المال والإنتاج واتخاذ القرار، فهذا الحضور السريع خلَق وهمًا جديدًا بالتفوق المطلق، حيثُ أصبحت الدقة بديلًا عن الحكمة، والصواب المبرمج بديلًا عن التجربة الإنسانيَّة بما تحمله من نقص وتردد، في كُلِّ مرحلة من تاريخ الإنسان. كان الخطأ هو البوابة الَّتي خرجت منها المعرفة، فالنار اكتشفت مصادفة، والعجلة وُلدت بعد محاولات فاشلة، والكهرباء كانت ثمرة تجارب غير مكتملة، تلك العثرات صنعت مسار الحضارة؛ لأنَّها منحت الخيال مساحة للجرأة والمحاولة والتجريب، لذا حين تلغى هذه المساحة باسم الكفاءة، يفقد الإنسان قدرته على التطور، ويتحول من فاعل إلى متلقٍّ ينتظر ما تنتجه الآلة نيابة عنه، والخطر الحقيقي يتمثل في أن يفقد الإنسان شجاعته على الخطأ، فيتراجع دَوْره في بناء المعنى، ويكتفي بمراقبة نظام يحسب كُلَّ شيء بدقة، لكنَّه يفتقد القدرة على أن يكتشف الجديد.

لقد كنَّا نفكر خارج الصندوق، لذا نجحنا، ولا يُمكِن للصندوق أن يفكر في تطوره أو في تطورنا، فنحن منذ بداية الخلافة على الأرض نصنع مستقبلنا عَبْرَ الإبداع الَّذي ينشأ من النقص، ويتشكل في مرحلة البحث عن الكمال. هذه المسافة بَيْنَ الحاجة والاكتشاف منحت الإنسان معنى التطور، لذا عندما يتحول المستقبل إلى عمليَّة حسابيَّة مغلقة تتوقف الحركة، ويذبل جوهر الإنسان، فالإبداع يولد من السؤال، والبحث المستمر هو طاقته الَّتي لا تنفد، والإنسان يتقدم حين يشكّ، وحين يرفض الاكتمال، وحين يرى في الخطأ خطوة نَحْوَ الفهم لا عثرة في الطريق. الخطر أن نفقد هذا التوتر الخلَّاق بَيْنَ النقص والرغبة، بَيْنَ ما نملك وما نطمح إليه، فنعيش في عالم متقن تقنيًّا لكنَّه خالٍ من الروح. فالمستقبل في جوهره ليس نتاج خوارزميَّة، وإنَّما انعكاس لوعي يظل في حالة بحث دائم عن ذاته.

حتَّى وإن وافقنا على ما يحدث الآن، وأكدنا أنَّ الأنظمة الماليَّة تحتاج إلى دقة الذكاء الاصطناعي للحدِّ من الاحتيال والسرقة، إلَّا أنَّني أتوقف عند فكرة الدقة ذاتها، فمَن صنَع هذا النظام ليحمي المال قادر على أن يخترقه، ومَن برمَج الخوارزميَّة لضبط البيانات قادر على استخدامها في الاتجاه المعاكس، فالدقة المطلقة تغري بالعبث؛ لأنَّها تمنح شعورًا زائفًا بالأمان، والإنسان هو من أوجد هذه التقنيَّة، والإنسان وحده يملك مفاتيح التلاعب بها، والنظام الَّذي يفترض أن يكُونَ حصنًا يُمكِن أن يتحول إلى باب خلفي مفتوح أمام مَن يفهمه أكثر، ما نحتاجه ليس زيادة في الدقة. لكن نبحث عن وعي يحميها من الاستخدام المزدوج، فالمعادلة الَّتي تغلق كُلَّ منافذ الخطأ قد تفتح أكبر ثغرات الخطر إذا غاب الوعي الَّذي يراقبها. أعتقد أنَّه لا يُمكِن لأيِّ ذكاء أن يضمن الأمان ما لم يظل الإنسان حاضرًا في مركز القرار، بعقله ومسؤوليَّته الأخلاقيَّة.

إنَّ هذا الذكاء الاصطناعي سيكُونُ له تأثير عميق على الإنسان المعاصر، وسيُعيد تشكيل طريقة تفكيره وتفاعله مع العالم، وسيبدو في بدايته نعمة في يد صانعه، يمنحه دقة وسرعة وقدرة على تجاوز حدود الجهد البشري. غير أنَّ خطورته تكمن في أثره على المتلقي الَّذي سيتحول تدريجيًّا من فاعل إلى تابع، يكتفي بما تنتجه الخوارزميَّات ويعجز عن مراجعته أو مقاومته! حين يفقد الإنسان ثقته بعقله لصالح نظام لا يخطئ، يتراجع الوعي وتضعف روح النقد، ويختزل الإدراك في استقبال آلي بلا تأمل. أخشى أن يتحول هذا الذكاء في النهاية إلى كارثة على الجميع، حين يستبدل الإنسان بالمعادلة، والفكر بالبرمجة، والوعي بالاعتماد.. وهنا أتساءل عن كم من وظيفة سيفقدها البشر؟ وكم من قيمة إنسانيَّة ستتراجع أمام كفاءةٍ جامدة لا تعرف المعنى؟ ومَن سأحاسب إذا أخطأت الخوارزميَّة؟ مَن سيتحمل المسؤوليَّة حين تصبح القرارات بلا صاحب واضح؟ ما لم يبقَ الإنسان في مركز المشهد بعقله وشكِّه ووعيِه ومسؤوليَّته، فإنَّ التقنيَّة الَّتي صنعها لتخدمَه قد تصبح الأداة الَّتي تُعِيد صياغته على صورتها.

إبراهيم بدوي

[email protected]