الاثنين 27 أكتوبر 2025 م - 5 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الموت على خريطة الحياة الفلسطينية

الاثنين - 27 أكتوبر 2025 04:30 م

رأي الوطن

20


يتَّخذ العدوان الصهيوني من الجغرافيا الفلسطينيَّة مختبرًا دائمًا للدَّم، حيثُ تتكرر مشاهد القصف والاقتحام والاستيلاء كجزءٍ من عقيدة عسكريَّة هدفها كسر الإرادة وترويض الوعي؛ ففي غزَّة تهتزُّ الأحياء تحت قنابل تستهدف الحجر والبَشَر معًا، فيتحول البيت إلى شاهد على المأساة، والرُّكام إلى ذاكرة تحفظ أسماء الأطفال الَّذين غابوا في لحظة واحدة. وفي الضفَّة الغربيَّة تتبدل المُدُن إلى مربَّعات مغلقة، تقتحمها القوَّات وتعتقل أبناءها وتزرع الخوف في تفاصيل النَّهار.. أمَّا الأرض فتُستنزف بقرارات تمنح غطاءً قانونيًّا زائفًا لتبرير سرقة ممنهجة تُعِيد رسم الخريطة، وفْقَ منطق القوَّة لا وفْقَ الحقوق التاريخيَّة، كُلُّ ذلك يحدُث في ظل هدنة معلنة يفترض أنْ توقفَ النَّار، لكنَّها تحوَّلت إلى ستار رقيق يُخفي استمرار العدوان بأشكالٍ متعدِّدة، وهكذا يمضي الاحتلال الصهيوني في مشروعه دُونَ توقُّف، فيما يبقى الفلسطيني واقفًا على أرضه، يدافع عن حقِّ الوجود ذاته كأسمى أشكال المقاومة.

هذا المشهد الَّذي تتداخل فيه النَّار مع الخداع السِّياسي يكشف أنَّ الاحتلال يخوض معركة طويلة ضدَّ فكرة الوجود الفلسطيني نفسها. فالقصف في غزَّة الوجْه الصَّاخب لسياسة أكثر هدوءًا تُمارسها القوَّات المُحتلَّة في الضفَّة عَبْرَ الاعتقال والمصادرة وإغلاق الطُّرق؛ بهدف خلْقِ واقعٍ جديد تُدار فيه الحياة الفلسطينيَّة تحت سطوة الخوف، فكُلُّ بيت يُهدم هناك يقابله حاجزٌ جديد هنا، وكُلُّ شِبر يُصادر يتحول إلى جدارٍ عازل بَيْنَ الفلسطيني وأرضه. وفي ظلِّ هذا الاختناق المتعمد، يتواصل المشهد كحربٍ بلا إعلان رسمي، تُدار بأدوات تجمع بَيْنَ السِّلاح والإجراءات الإداريَّة لتفكيكِ البنية الاجتماعيَّة الفلسطينيَّة وتحويلها إلى أرخبيل من العزلة، بَيْنَما يظلُّ الفلسطيني يرى في صموده حماية لهُوِيَّته وذاكرته وحقِّه في أنْ يكُونَ.

كما تتوازى مع القصف والاقتحام سياسة أكثر دهاءً تستهدف الأرض ذاتها، فقرارات المصادرة والإزالة تتساقط كأوامر إداريَّة ظاهرها القانون وباطنها التوسُّع، كما حدَث حين استولى الاحتلال على ثلاثة وسبعين دونمًا في رام الله والبيرة، في خطوةٍ تمثِّل جوهر المشروع الاستيطاني الَّذي يَقُوم على تفريغ الجغرافيا من معناها الوطني، لِتشكِّلَ هذه السِّياسة خطرًا أكبر من الصواريخ؛ لأنَّها تمحو المستقبل دُونَ أنْ تثيرَ ضجيجًا، وتحوِّلَ الخريطة إلى وثيقة جديدة يوقِّعها المحتلُّ ببطء ووقاحة.. فالأرض الَّتي كانتْ مورد حياة للفلاح الفلسطيني تحوَّلت إلى حدودٍ عسكريَّة وأسوار إسمنتيَّة، لِيصبحَ المشهد من مقاومة مُسلَّحة إلى معركة بقاء قانونيَّة يخوضها الفلسطيني أمام عالم يتفرج. وكُلُّ دونم يُصادَر يعني انكماش المساحة الَّتي يتنفس فيها التاريخ، وكُلُّ شجرة تُقتلع تعني حذف صفحة من ذاكرة الوطن، ومع ذلك يبقى الإصرار الفلسطيني على الزراعة والتمسُّك بالحقِّ فِعلَ مقاومةٍ يوميًّا يُعِيد المعنى إلى التراب.

إنَّ المشهد الفلسطيني يعكس جوهر الصراع الإنساني في زمن تاهت فيه القِيَم، وتراجعت فيه الضمائر، فالاحتلال يواصل هندسة الجغرافيا بالنَّار، ويزرع الخوف، ويظنُّ أنَّ القوَّة كافية لمَحْوِ الذاكرة، بَيْنَما الفلسطيني يُحوِّل الألم إلى معنى جديد للحياة، لا ينتظر خلاصًا من أحَد؛ لأنَّه أدركَ أنَّ العدالة تُصنع بالفعل لا بالتصريحات، وأنَّ الأرض الَّتي تُروَى بالدَّم تحفظ أسماء أصحابها في جذورها، وكُلَّ بيتٍ مهدوم يتحول إلى شاهد على فكرة لا تموت، وكُلُّ طفل يخرج من تحت الرُّكام يعلن أنَّ الحقَّ باقٍ رغم كُلِّ الجراح. فالصُّمود الفلسطيني مشروع بقاء يُعبِّر عن أعمق ما في الإنسان من إرادة، إرادةٍ تُشكِّل صياغة المعنى في وجْه الفناء، فهذه الأرض الَّتي عرفت الحصار والقصف والخذلان ما زالت قادرة على إنتاج الأمل؛ لأنَّها تؤمن بأنَّ الوجود نفسه مقاومة، وأنَّ الكرامة تتنامى بما يضيفه الإنسان إلى تاريخه حين يواجه محنته واقفًا.