الأحد 26 أكتوبر 2025 م - 4 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

ألسُن وحكايات : العودة إلى «الروضةِ» الرؤوم «2»

ألسُن وحكايات : العودة إلى «الروضةِ» الرؤوم «2»
الأحد - 26 أكتوبر 2025 12:00 م

ناصر المنجي

40

الزائر لبلدة الروضة يرى عن يمينه وشماله حدائقَ وأعنابا، وفي أرضها قطعٌ متجاورات وجنات من أعنابٍ وزرع ونخيلٌ صنوان وغير صنوان، يسقى بماءٍ واحد من أفلاجٍ عدة، لذلك كانت سلة غذاء الشرقية، عُرفت الروضة بزراعة العنب وأصبح أسمها مرتبطاً به، ويقام بها حالياً مهرجانٌ سنوي للعنب العماني، كما يتم زراعة العديد من المنتجات الأخرى، أخبرني الوالد رحمة الله عليه أنه عندما رجع من شرق أفريقيا في منتصف خمسينيات القرن الماضي أتى ببذور أو شتلة شجرة البن، وقام بزراعتها في إحدى المزارع القرية، لم يستغرب أن شجرة البن نَمَت في الروضة وكبرت وأزهرت ولكنها لم تثمر ربما لاختلاف الطقس، أسرد ما قاله أبي دلالةً على جودة تربةِ البلدة وعذوبة مياهها، سوق الروضة كان يقصده يومياً العديد من أبناء القرى والولايات الأخرى لبيع منتجاتهم الزراعية والحيوانية أو للشراء، قبل عام السبعين وبعده بسنواتٍ أيضاً يُخبرني كبار السن بأنه كانت تباع فيه لحوم الطرائد من وعولٍ وغزلان وثعالب، دكاكينه الآن أطلال تئنُ وتبكي على ما آلت إليه، جميعها أصبحت مغلقة أو متهدمة، جَلَبة السوق ومناداة الدلالين والباعة سابقاً ما تزالُ في أذني، يأتي أهل الروضة بأنواع الخضار والفاكهة والقت للبيع في السوق، كل ما يُباع هو من زراعة أياديهم ومن إنتاج البلدة، يأتي البعض بالمواشي والعسل العماني، فيما تصطف عدة سيارات تبيع الأسماك وما جاد به بحر عمان، كان السوق عبارة عن عُمان مُصغّرة، لا وجود لوافد مُطلقاً، البائع والمشتري والمُنادي والمزارع وصاحب المواشي عمانيون، الصياد وبائع السمك من أبناء سلطنة عمان، هنا أُريدُ أن أشير إلى نقطةٍ مهمة إن لم تكن قريبة من الموضوع، فهي ليست بالبعيدة عنه، وهي إننا نحنُ من أتى بمشكلة الباحثين عن عمل، وذلك عبر إعطاء قطاعات مهمة للعمالة الوافدة سواءً بالعلن أو بالتستر كالقطاع الزراعي والسمكي والحرفي التي أغلب العاملين والمستفيدين منها من الأجانب، نعم البحر لنا، لكن خيراته للعمالة الوافدة، إنها ليست عنصرية ضد أحد، كان من الضروري جداً مساعدة المواطن العماني في هذه المهن، لا أظن أن أحداً كان يعمل في البحر سواء أكان بحّاراً أو صياداً أم بائعاً للأسماك أو صانعاً للسفن سوى أبناء البلد، صيانة الأفلاج من قبل الوافدين هي إهانة لأرواح الأجداد العُظام الذين شقوها في أقسى الطبقات وفي بيئة صعبةٌ جداً في أفضل وصفٍ لها، الفلج في منبعه ومجراه ومصبّه يحمل عبقرية العماني المُتقدة منذ أقدم الأزمنة، الفلج الذي شقّته العبقرية العمانية وليست السواعد فقط، لأن الأفلاج علم يضم عدة علوم مثل الفلك وعلم طبقات الأرض والجاذبية وغيرها، رؤية شخص غير عماني يقوم بصيانة الأفلاج بالنسبة لي منظر يُدمي الروح وليس القلب.

الوادي الشرقي مُلاصق للسوق، المشي فيه هو جنة قبل أن يكون هواية أو رياضة، ما تزال (السوقمة) وارفةً بظلالها ، مُثمرةً بتينها اللذيذ، درستُ القرآن تحت شجرة السوقم، كان شباب الروضة ذكورا وأناثا يتلقون العلم على يدي المُعلّم ناصر الهنائي، وهو من مدينة الفيحاء سمائل، أُستقدم إلى الروضة لُيُعلِّم القرآن، يقٌال أن المُعلّم ناصر كان يقرأ النجوم، في عام السبعين وبعد صلاة الفجر نظر إلى السماء فسُئل ماذا تقول النجوم اليوم، فقال : اليوم يمكن أن يحكم عمان سلطان شاب جديد وسيدوم حكمه ما يقارب الخمسين عاما، لن تسمعون طلقة في فترة حكمه، أبناؤكم سيرجعون من الغربة، وبالفعل أتت الأخبار بعد أيام بتوّلي المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في البلاد، بعدها بسنوات وبعد صلاة الفجر كان ينظر للنجوم وقال: في ظني اليوم ستذهبون بي إلى إبراء، ومن هناك لن ترجعونني للروضة بل إلى سمائل، وهو ما حصل بالفعل، كان المعلم ناصر مُستلقياً تحت السوقمة ظهراً في انتظار التلاميذ، وكانت سيارة نقل متُوقفة هناك بها فسائل نخل، فجأةً حرّك السائق الشاحنة ولم يلحظ المعلم ناصر النائم، فدهسه، ذُهبَ به إلى مستشفى إبراء، وكان به رمقٌ من روح وتوفي في الطريق، ذهب به أهل الروضة إلى سمائل ليُدفن هناك في مدينته وعند أهله . ليلاً أرافق القمر في رحلته خلال الثلاثين يوماً، أُرحب به مُحاقاً بداية الشهر، ثم هلالاً جميلاً، ثم بدراً منيراً السماءَ والقلُوب، ثم يعود لحضن السماء كالعرجون القديم، العيش في القُرى تجعل المرء شاعراً دون أن يدري، أرقُب النجوم في أعالي السماء، النظرُ إليها هو عوالمٌ أفضل من العالم الذي نعيش، النجوم شعوب وقبائل تتعارف باللمعان والجمال.

ناصر المنجي 

[email protected]