قد يقول قائل لماذا تقدِّم الشكر لمؤسَّسة أو لفرد؟ لأنَّه قام بعمله الموكل له، فهذه وظيفته، ويتقاضى عليه أجرًا، فهو لم يقدِّم معروفًا أو إحسانًا أو قام بعمل بجهد تجاوز ما هو موكل له من عمل؟ فأقول: نعم ذلك صحيح، ولكن بعض الجهود تستحق الثناء من باب التحفيز والتشجيع والتمييز، تستحق الجهود لأنَّها قدَّمت الإتقان والمهنيَّة، قامت بجهد مخلِص أمين. فالشكر ليس على العمل في حدِّ ذاته فقط، بل لأنَّ العمل أثلج الصدور وقدَّم الأمل شكلًا وموضوعًا لمستقبل هذا الوطن العزيز. وكما يقول المصطفى (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، فشكرًا أجهزتنا الرقابيَّة في كُلِّ ثغرٍ من ثغور هذا الوطن العزيز.
بادئ ذي بدء، طالعنا جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة بملخَّص المُجتمع للعام 2024م، متضمنًا أهمَّ الموضوعات في خطَّة الفحص السنويَّة، وجهود الجهاز في الكشف عن المخالفات الماليَّة والإداريَّة الَّتي تعامَل معها بالتنسيق مع الجهات المختصَّة، فضلًا عن دَوْره في مجال التوعية وتعزيز النزاهة، وإشراك المُجتمع من خلال تلقِّي الشكاوى والبلاغات فيما يتعلق بالإهمال ومخالفة القوانين واللوائح والقرارات.
ووفْقَ ما جاء بالتقرير فقد تلاحَظ ارتفاع في المهام المنفذة من قِبل الجهاز، بالإضافة إلى عدد الوحدات الحكوميَّة الَّتي شملها التقرير عمَّا جاء في ملخَّص المُجتمع للعام 2023م، ما يدلُّ على ارتفاع معدَّل الجهود الرقابيَّة وتوسع بيئة الرقابة والمتابعة؛ بالإضافة إلى مهنيَّة الإجراءات المتَّخذة والَّتي وجَّه الجهاز الجهات الحكوميَّة الَّتي شملتها الرقابة والمتابعة بالعمل عليها حلًّا وعلاجًا للنتائج الَّتي توصَّل إليها.
من أبرز الأمثلة الَّتي شدَّت الانتباه ويُمكِن الإشارة إليها على النتائج والإجراءات المتَّخذة: عدم توافر الخدمات الأساسيَّة في أحَد المُخطَّطات المخصَّصة لخدمة «اقتنِ أرضك» كالطُّرق وشبكة المياه والكهرباء، وهي خدمة طرحتها وزارة الإسكان والتخطيط العمراني مشكورة، الأمر الَّذي لا يتماشى مع مبدأ الخدمة والمتمثلة في اقتناء الأرض بسعر مدعوم حكوميًّا في مخطَّطات مكتملة الخدمات، حيثُ وجَّه الجهاز بإعادة دراسة المُخطَّطات المطروحة في خدمة «اقتنِ أرضك» بما يكفل توافر الخدمات الأساسيَّة في تعمير المُخطَّطات، كما أنَّ نظام خدمة «اقتنِ أرضك» يعطي أصحاب العلاقة فرصة لزيارة الموقع واتخاذ القرار المناسب قَبل استكمال الإجراءات لمنح قطعة الأرض.
كذلك ومن الأمثلة الَّتي يُمكِن أن يشارَ إليها: الدراسة المرفوعة من قِبل الجهاز لوزارة الصحَّة بمقترحات رفع العلاوات والمخصَّصات للمريض الموفد وإجراء تعديلات أكثر شموليَّة وملاءمة، واستحداث وجهات سفر علاجيَّة جديدة كنتيجة لعدم تحديث مخصَّصات نفقات الإقامة والنفقات اليوميَّة الَّتي تصرف للمريض الموفد للعلاج بالخارج، والَّتي أصبحت لا تتناسب مع حجم التضخم وارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة وصل بعضها لنَحْوِ ثلاثين عامًا، وهو ما يدلُّ كذلك على اهتمام الجهاز بجودة الخدمات وتناسبها مع الواقع المعاش من قِبل المواطنين، بالإضافة إلى طرح أفكار ومقترحات لمعالجة النتائج الرقابيَّة.
ونحن في هذا المقال، سواء كمواطن أو كصحفي قضى أكثر من (29) سنة في هذا المجال ـ وإن كنَّا غير راضين عن وجود بعض النتائج الرقابيَّة الَّتي كان يُفترض أن تعالجَها المؤسَّسات نفسها، وتسعى لحلِّها دون الحاجة إلى توجيه من قِبل الأجهزة الرقابيَّة؛ لأنَّها ـ أي تلك النتائج ـ حلُّها جزء لا يتجزأ من أعمال المرفق الحكومي الخدمي، وهو هدف وطني في حدِّ ذاته، خصوصًا أنَّ بعض مؤسَّسات الدولة تقدِّم خدمات إنسانيَّة مثل العلاج والسَّكن والصحَّة والتعليم والغذاء والرعاية الاجتماعيَّة وهكذا، إلَّا أنَّنا نقول إنَّ مؤسَّسات الدولة وعملها تكاملي، وبلا شك تبقى الرقابة وسيلة من وسائل العمل المهني الغاية في الأهميَّة والضرورة.
على أنَّ بعض الملاحظات كانت جديرة بتسليط الضوء عليها؛ لأنَّها لا تتعلق فقط بالمؤسَّسة كإدارة وخدمة تقدّم، بل هي جزء لا يتجزأ من أمننا الوطني، ومن الحماية المتعلقة بأسرار الدولة وخصوصيَّة الأفراد كما هو الحال مع البيانات والمعلومات، مثل عدم امتلاك وزارة العمل لصلاحيَّة الوصول المباشر إلى قواعد بيانات منظومة «إجادة» رغم ملكيَّتها للمشروع، ممَّا يحدُّ من قدرتها على ضمان أمن المعلومات أو مراقبة إدارة البيانات من قِبل الشركة المطوِّرة، بالإضافة إلى إشراك الشركة المطوِّرة للمنظومة لكوادر فنيَّة من غير العُمانيين للعمل في إدارة النظام بالمخالفة للبندين (1، 2) من التعميم الوزاري رقم (7 /2020) بشأن الضوابط الخاصة بشاغلي الوظائف ذات الصلة بأمن المعلومات وإدارة الشبكات وقواعد البيانات.
كذلك ما تعلق ببلديَّة مسقط بخصوص وجود صلاحيَّات لإدارة قواعد البيانات والأنظمة الإلكترونيَّة لموظفين متعاقد معهم عن طريق الشركات، بعضهم غير عُمانيين، ومنح موظفين متعاقد معهم عن طريق شركات صلاحيَّات الدخول إلى قواعد البيانات وإدارة أنظمة البلديَّة، دون توسيم تلك الصلاحيَّات أو إقرانها باسم مستخدم محدَّد، حيثُ تمَّ توسيم المستخدم بأسماء الشركات.
ما يؤسف له كذلك وجود تقصير واضح في العديد من الجهات فيما يتعلق بالربط الإلكتروني بَيْنَ مؤسَّسات الدولة وما تقدِّمه من خدمات، رغم الجهود المبذولة وفْقَ رؤية سلطنة عُمان 2040، بالإضافة إلى ملاحظة مستغربة وتحتاج إلى إعادة النظر وتتركز حَوْلَ واجهة البلد الاستثماريَّة، حيثُ حصلَ (378) من العاملين أصحاب المِهن البسيطة مثل (عامل زراعي، عامل منزل، مُربِّي إبل، مُربِّي مواشٍ، مُربِّية أطفال، حدائقي، سائق سيَّارة خصوصي) على إقامة مستثمر، بعد أن قاموا بتغيير تصريح إقامتهم إلى مُسمَّى شريك تجاري، فكيف تمَّ ذلك؟!
على العموم، هناك ملاحظات عديدة ومختلفة بذلَ جهاز الرقابة جهودًا واضحة لتسليط الضوء عليها ومعالجتها بالتعاون مع الجهات الحكوميَّة، وإن كان ذلك من طبيعة عمل الجهاز وجزءًا لا يتجزأ من وظيفته، إلَّا أنَّ المهنيَّة والشفافيَّة الرقابيَّة الَّتي طرحت على المُجتمع كانت رائعة وواضحة وشفَّافة إلى حدٍّ بعيد، فكيف بالتقرير الرسمي إذًا والَّذي رفع للمعنيين، فمن المؤكد أنَّه كان أكثر صرامة وشفافيَّة ووضوحًا.
هذا بالإضافة إلى إعمال الجهاز اختصاصاته في الكشف عن المخالفات الماليَّة والإداريَّة طبقًا لأحكام قانون الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (111/2011) والَّذي تعامَل في عام 2024 مع (72) من قضايا الأموال العامَّة، ومحاضر التحرِّي في المخالفات الماليَّة والإداريَّة الَّتي تُشكِّل شبهة أو جريمة جنائيَّة. ولعلَّ نوع وشكل القضايا الَّتي تعامَل معها الجهاز فيما يتعلق بالمحافظة على المال العام تظهر مهنيَّة الجهاز وشفافيَّته مثل القضايا المتعلقة باستغلال المنصب لتحقيقِ منفعة وقَبول الرشوة للقيام بأعمال منافية لواجبات الوظيفة، والتزوير المعلوماتي والتزوير في المحرّرات الرسميَّة واختلاس المال العام والإخلال في أداء الواجبات الوظيفيَّة التعدِّي على المال العام.
ولعلَّ شفافيَّة التقرير ووضوحه وحتَّى صراحة مفرداته لدليلٌ واضح على حرص الجهاز على أداء عمله بكُلِّ مهنيَّة وواجب وطني. ولعلَّ طرح بعض أهم الأحكام القضائيَّة الصادرة بالإدانة في العام 2024 فيما يُسمَّى بتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد (ص 81- 84)، وبالإضافة إلى ما سبق فإنَّ وجود مكان لأعمال التوعية والإرشاد الَّتي قام بها الجهاز في هذا الملحق ليدلُّ على التوازن ما بَيْنَ الأعمال القانونيَّة والجنائيَّة والسياسات التوعويَّة والإرشاديَّة وغير ذلك من الأعمال الَّتي يقوم الجهاز بأدوار تستحق الثناء، فشكرًا أجهزتنا الرقابيَّة...
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @