الإرادة قوَّة، ومَن يمتلك وضوح الرؤية وعُمق الإيمان بمشروعه ومقاصده العظيمة، يُحقِّق إنجازات تتفوق حتَّى على المتخيل، وتأتي مشاريع الترجمة والتحقيق والبحث والكتابة والإنتاج الفكري ـ العلمي، الإنساني، في المراتب العليا للإنجاز البشري؛ كونها تُحقق نهضة أُمَّة ومُجتمع وإنسان، تُعمِّق الوعي وتُحفِّز على التفكير وتُسهم في تقدُّم المعرفة، وتُلهم القارئ والباحث والطالب تجارب الآخرين وسِر تفوُّقهم وقوَّتهم، وتفتح آفاقًا جديدة ووسائل وأدوات متقدمة في قراءة وكتابة التاريخ والبحث والتأليف والاشتغال بإعداد الدراسات التخصصيَّة والأكاديميَّة في مجالات متعدِّدة، وإغناء حقول المعرفة بمراجع ومصادر تتميز بالتنوع والشموليَّة والثراء... وهذا هو بالضبط ما صنعه وأحدَثه الأخ المُكرَّم الشيخ محمد بن عبدالله الحارثي، الخبير الاقتصادي ورئيس اتحاد المترجمين العرب، وعضو مجلس الدولة سابقًا... الَّذي اشتغل منذ سنوات طويلة بترجمة الأرشيف البريطاني، وظلَّ لعقودٍ نشطًا لا تفتر همَّته، تتجدَّد أعماله وتتوسَّع إنجازاته وتنمو تلك العناوين الكبيرة من موسوعات وحَوليَّات ودراسات وكتُب ترجمها بمثابرة وجهد وصلابة، وقدَّمها للمكتبة في طباعات فاخرة، محدِثةً نهضة حقيقيَّة في مجال التأليف والكتابة والنَّقد والمراجعة والتحقيق، وإعادة النظر والتدقيق في ما كُتب سابقًا حَوْلَ كُلِّ المجالات والتخصُّصات الَّتي تناولت موضوعاتها العناوين الَّتي ترجمها الحارثي. فلا تكاد تصدر اليوم دراسة وكِتاب وبحث وعمل في السياسة والاقتصاد والتاريخ والسِّير والاجتماع واللُّغة وتقاليد الحياة وأنماطها... دُونَ أن تكُونَ الوثائق المترجمة في مشروع محمد الحارثي مرجعًا ومصدرًا أساسيًّا لها، والَّتي قدّمت نبذة عن بعضها في مقالات نشرتها هذه الجريدة الغرَّاء (الوطن) سابقًا، وعددت غاياتها وأهدافها النبيلة، وما أحدثته من تحوُّلات ومراجعات، وقيمتها التاريخيَّة والمعرفيَّة العالية، وما احتوته من تفاصيل دقيقة ووثائق حسَّاسة لتاريخ عُمان والمنطقة وأحداثها، وملامح السياسة والإدارة وطبيعة العلاقات بَيْنَ القوى الإقليميَّة والعالميَّة والنتائج الَّتي ترتبت عنها، ونشاط الجمارك والموارد والعوائد الاقتصاديَّة والحركة التجاريَّة والعلميَّة والتقاليد المحليَّة، وتاريخ الكوارث والأوبئة وكيفيَّة التعامل معها وما خلَّفته من خسائر جسيمة... آخر الأعمال الكبيرة الَّتي ترجمها الشيخ محمد بن عبدالله الحارثي ـ الَّذي لم يستسلم للتحدِّيات والإعاقات، ولم يخضع للوهن والخمول على كثرتها وضخامتها، ومَن يسمعها من لسانه يأخذه العجب لإرادته العصيَّة على الانكسار ـ «موسوعات حدود ساحل عُمان المتصالح» خلال الفترة من «1820ـ1985»، الَّتي تضيف مكسبًا آخر مهمًّا للمشروع الضَّخم القائم على ترجمة الأرشيف البريطاني، وتُسهم في إضافة مصادر قيِّمة وحسَّاسة للباحثين والكتَّاب والأكاديميين والمتخصِّصين الَّذين اضطلعوا بمهام البحث والتأليف... تتحدث المقدِّمة في تعريفها الشارح لمحتوى ومحاور وملفَّات الموسوعة، بأنَّ «إنشاء حدود الإمارات المتصالحة، الَّتي أصبحت في عام 1971 دولة الإمارات العربيَّة المُتَّحدة، لم تكُنْ مسألة بسيطة وقصيرة الأجل، فقد قامت على التفاوض وتحديد الحدود وترسيمها بَيْنَ إمارات قوميَّة اعتادت ممارسة السيادة الإقليميَّة منذ زمن طويل. فالمفاهيم الغربيَّة للإمارات القوميَّة والسيادة الإقليميَّة والحدود الثابتة كانت غريبة عن تقاليد المنطقة. وقد ارتبطت هذه التقاليد بوجود عائلات يترأسها شيوخ تهيمن على المستوطنات الممتدة على طول الساحل وقد مارست نفوذًا تفاوتَ في قوَّته عليها، وعلى بعض القبائل البدويَّة في المناطق النائيَّة». وفي إشارة مرتبطة بذات الموضوع، أوضحت بأنَّ «عدد الرجال الَّذين يُمكِن لزعيم أُسرة من الشيوخ أن يستدعيهم لمساعدته في أوقات الشدَّة» هو المقياس المهمُّ لقوَّته. ويؤكد مترجم الموسوعة في المقدِّمة، إلى أنَّ «الإجراءات البريطانيَّة لعبت دَوْرًا مهمًّا في تحديد أيّ من الشيوخ يُمكِن اعتباره حاكمًا مستقلًّا وأيّهم يُمكِن اعتباره زعيمًا فرعيًّا. وقد كان هؤلاء القادة المستقلون هم الَّذين وقَّع معهم البريطانيون اتفاقاتهم للتصالح البحري في 1819، و1820، و1843، و1853، وقبلوا بهم من ثم بوصفهم حكامًا مستقلين للساحل». دون أن يغفل فيلمح إلى الحقيقة التاريخيَّة، بأنَّ البريطانيين إنَّما «اهتموا في المقام الأول بتجارتهم شمال الخليج، ومن ثمَّ، اهتموا بإقرار السِّلم في البحر». ولكن بعد حدوث تحوُّلات مصاحبة للوجود البريطاني في المنطقة، وفي مقدِّمتها «استيطان رعايا الهند البريطانيَّة المُدن الساحليَّة وتمويلهم لصيد اللؤلؤ والتجارة، أصبح من الواضح أنَّ الحرب بَيْنَ المستوطنات الساحليَّة ستؤثر على مصالحهم». ولهذا السبب «بذل ممثلو حكومة الهند، وخصوصًا وكلاء المقيميَّة في الشارقة، والوكلاء السياسيين في البحرين، وضباط البحريَّة، جهدًا متزايدًا لكبح النزاعات العنيفة الَّتي ثارت بَيْنَ المستوطنات الساحليَّة». مع الالتزام في سياستهم على عدم التورط «في المعارك القبليَّة في الأراضي الداخليَّة». وفي مرحلة أخرى لاحقة، مع توسُّع الوجود البريطاني وتشعُّب مصالحهم في المنطقة وزيادة نفوذهم الاستعماري العالمي، وظهور مستجدات وتحوُّلات يتقدمها اكتشاف منابع النفط والتنقيب عنه، تطلب منهم ذلك الواقع تأسيس طريق جوِّي «في الخليج لربط إمبراطورتيهم في الهند بالمملكة المُتَّحدة. فاحتاجوا إلى تسهيلات للهبوط والتزود بالوقود على الساحل، وأبرموا اتفاقيَّات جويَّة مع الشارقة ودبي ورأس الخيمة. كما احتاجوا أيضًا إلى مهبط طوارئ على الساحل الشرقي، وعندما عجزت الشارقة عن توفير ذلك، أبرموا اتفاقيَّة جويَّة مع كلباء عام 1936». تناولت المقدِّمة علاقة بريطانيا الوثيقة بالمنطقة ودَوْرها الرئيس في ترسيم الحدود، وتحوُّلات وتطوُّرات سياساتها الَّتي ارتبطت بمصالحها، والنزاعات الَّتي ثارت بَيْنَ الشيوخ والقبائل والإمارات المتصالحة، والتسويات الَّتي تمَّت وآثارها ونتائجها، والتحدِّيات والمشكلات الَّتي خلَّفتها، والوثائق المرتبطة بها، والصراعات الَّتي نشأت على اقتسام المكاسب والمنافع خصوصًا تلك المتعلقة باكتشافات النفط والبحث والتنقيب عنه.. غطَّت موسوعة «حدود ساحل عُمان المتصالح» ملفات كثيرة من أبرزها: التاريخ الداخلي لمشيخات الإمارات ـ تاريخ الإمارات المتصالحة في مطلع القرن العشرين ـ الاتفاقيَّات المقرَّة بَيْنَ الإمارات المتصالحة وملامح التطوُّر الَّذي شهدته ـ التدخل البريطاني في شؤون الساحل المتصالح ـ دَوْر القبائل التاريخي وخصائصها وتقاليدها وأماكن وجودها ـ التنقيب عن النفط ـ الادعاءات الحدوديَّة ـ التعاون الأنجلو أميركي ـ وساطات تسوية الحدود ـ الاستمرار في رسم الحدود ـ منطقة البريمي ـ نصوص المعاهدات والاتفاقيَّات العامَّة مع القبائل العربيَّة... واحتوت الموسوعة على المراسلات والتقارير والخرائط والطبيعة الجغرافيَّة وكم هائل من الوثائق ذات العلاقة بتاريخ المنطقة وأسرار الفترة التاريخيَّة الَّتي تتحدث عنها، والَّتي تضع القارئ والباحث أمام مرجع نفيس عالي القيمة...
سعود بن علي الحارثي