الأحد 26 أكتوبر 2025 م - 4 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : ماذا بعد تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة وتساؤلات أخرى؟

في العمق : ماذا بعد تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة وتساؤلات أخرى؟
السبت - 25 أكتوبر 2025 11:48 ص

د.رجب بن علي العويسي

20

من بواعث الفخر أن يعقب صدور تقرير الجهاز «ملخَّص المُجتمع» تفاعلًا لافتًا وغير مسبوق عبَّر عنه أفراد المُجتمع بمختلف فئاته، ومستوى الارتياح الواسع والدعم الواضح لجهود جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة، بما أضافه من قِيمة نوعيَّة في مسيرة العمل الرقابي، وتعزيز مبادئ النزاهة والمحافظة على المال العام، حيثُ أسهم هذا التفاعل في ترسيخ الحسِّ الوطني وتعزيز منهج الضبط القِيَميَّة والأخلاقيَّة الَّذي يسير جنبًا إلى جنب مع الضبطيَّة القانونيَّة والرقابيَّة، في ظل نهج من الشفافيَّة والمصداقيَّة والموضوعيَّة الَّتي يتبعها الجهاز في تناوله للقضايا، وفي ممارساته المهنيَّة الدقيقة في رصد التجاوزات من واقع أداء المؤسَّسات والجهات المعنيَّة. لِتشكِّلَ جهوده الإعلاميَّة في نشر التقرير أحد المرتكزات الجوهريَّة الَّتي عبَّرت عن مستوى اليقظة الفكريَّة والتنوع في البرامج التوعويَّة والأساليب الَّتي التزمها الجهاز في تقريره، سواء في بنيته وأدواته واستراتيجيَّات الرصد المتبعة في كشف الثغرات وتتبع مصادر التجاوزات داخل المؤسَّسات، وفهم العلاقات التكامليَّة بَيْنَ مختلف الممارسات والروابط المؤسَّسيَّة، لِتكُونَ هذه المرحلة محطَّة نوعيَّة تُحسب لجهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة، إذ عززت من القِيمة المضافة للتقرير، ورسَّخت ثقة المواطن واهتمامه ومتابعته وانتظاره لتقارير الجهاز السنويَّة.

ومع ثقتنا بِدَوْر الجهاز في متابعة نتائج الرقابة، واستمرار العمل مع المؤسَّسات وفق الإجراءات والمعايير المتبعة في معالجة التجاوزات والمخالفات الواقعة من قبل المؤسَّسات الدولة المشمولة برقابة الجهاز والناتجة عن تصرفات غير مسؤولة وممارسات غير منضبطة أو تجاوزات تخترق القانون وتعبث بالمسؤوليَّات أو كانت ممارسات شخصيَّة وفرديَّة أو جماعيَّة لبعض المتنفذين أو المخول لهم من قِبل السُّلطة المختصة ببعض الأعمال، خصوصًا من المُجتمع الوظيفي، والوقوف على أفضل الممارسات الَّتي تشكِّل رادعًا في الوقوع في مثل هذه الممارسات؛ يبقى التساؤل الَّذي لا يزال يطرح بعد كُلِّ تقرير وهو: ماذا بعد تقرير جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة؟ وما الأثر الَّذي يَجِبُ أن يجده المواطن، سواء على مستوى المؤسَّسات الَّتي ارتفعت فيها مؤشرات الشكاوى والبلاغات أو الشركات والاستثمارات المشمولة برقابة الجهاز، أو في معالجة المسوغات والمبررات الَّتي أدَّت إلى نُمو هذه الظواهر الجرميَّة غير المنضبطة في حقِّ المال العام وموارد المؤسَّسات وحقوق المواطنين.

وبالتالي ما يطرحه هذا التساؤل من مرحلة مفصليَّة في العمل الرقابي تتسم بالمسؤوليَّة والبحث والرصد والتعمُّق في الدلالات والتشابكات والعلاقات بَيْنَ طبيعة هذه الممارسات، فإنَّه في الوقت نفسه يؤسِّس لمرحلة متقدمة من العمل المُجتمعي في دعم جهود الجهاز والأخذ بكُلِّ الخطوات الَّتي سعى جهاز الرقابة لتحقيقها عَبْرَ أدواته التوعويَّة والتثقيفيَّة والإعلاميَّة والتواصليَّة والاحتوائيَّة والصورة الَّتي قدَّمها في جعل الوعي الرقابي الجمعي والرقابة الذاتيَّة والنزاهة خطوط التقاء لصناعة التحول الشامل في السلوك المُجتمعي والمؤسَّسي وسلوك المُجتمع الوظيفي في المحافظة على المال العام، ولذلك فإنَّ الأثر النوعي الَّذي أحدَثه تقرير الرقابة في بناء الوعي الرقابي الجمعي وتعزيز النزاهة والتفاعل المُجتمعي الَّذي يعكس رغبة مُجتمع سلطنة عُمان في مواجهة الفساد يحمل أبعادًا استراتيجيَّة ودلالات نوعيَّة في إمكانيَّة تحويل نتائج هذه التقرير والجهد المؤسَّسي إلى برنامج عمل وطني وثقافة مؤسَّسيَّة وثقافة مواطن يجد في الرقابة حياة، وفي النزاهة أمانًا واحتواء، وفي الشفافيَّة روح المصداقيَّة ونهج التكامل في وقت يبرز فيه تقرير الجهاز لعام 2024، حجم الجهد والتعقيدات والصعوبات الَّتي واجهها الجهاز في قدرته على الوصول إلى هذه الثغرات، ورصد هذه التجاوزات التقنيَّة والإداريَّة والماليَّة والعوامل والمتغيرات وتفسير التشابكات المرتبطة بها في ظلِّ اتساع انتشار الفساد المالي والتجاوزات الماليَّة والإداريَّة في بعض مؤسَّسات الدولة ووصوله إلى أنظمتها وبرامجها وانتشاره في مفاصل العمل الوطني.

من بَيْنِ الأمور الأخرى الَّتي باتت محلَّ تساؤل من قِبل المتابعين والمتفاعلين مع تقرير جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة هو: ما مدى حضور البُعد الإداري في تقرير الرقابة والحيِّز الَّذي يشغله في بنية التقرير؟ فإنَّ أكثر الملاحظات والتجاوزات والمخالفات الَّتي رصدها الجهاز يغلب عليها الجانب المالي أو هي أقرب إلى قضايا ماليَّة ـ رغم إشارته إلى البُعد الإداري فيما يتعلق بالشكاوى والبلاغات ـ، ولا شك بأنَّ الجانب الإداري باتَ أحد المتغيرات المساهمة في انتشار هذه الممارسات؛ بمعنى أنَّ التجاوزات الماليَّة الَّتي أوردها تقرير الجهاز في أكثرها نتاج لوجود خلل في الإدارة وعمليَّات التنظيم والضبط الإداري والمتابعة، وتقرير الجهاز من المتوقع أن يقرأ هذه التجاوزات ومدى علاقتها بالترهل الإداري ذاته أو تصرفات المسؤول الحكومي وما نتج عنها من خلل في موازين الالتزام والأمانة الوظيفيَّة، وما لم يتم معالجة الجوانب الإداريَّة والتنظيميَّة فإنَّ النتائج المترتبة على عمليَّة الرقابة قد تكُونُ غير كافية في الوصول إلى التحسين المنشود. فمثلًا قد يطرح البعض تساؤلًا حَوْلَ ما يظهر من غياب بعض المسؤولين بالمؤسَّسات عن المشهد المؤسَّسي الداخلي، وما أوجده ذلك من فراغ قد تكُونُ من بَيْنِ نتائجه، حالة الصراع الداخلي، واتساع حالة الإقصاء والتهميش، إلى جانب ضعف المنهجيَّات والأساليب الحديثة والفلسفة الإداريَّة في واقع عمل بعض المؤسَّسات، الأمر الَّذي أتاح لهذه الفئة من الموظفين أو رؤساء الأقسام أو مديري الدوائر أو غيرهم خصوصًا ممَّن يرتبط عملهم بتوقيع العقود والمناقصات وتذاكر السفر أو غيرهم في استغلال هذا الفراغ لصالح ارتكاب هذه الممارسات غير المنضبطة. كما أنَّ انشغال المسؤول وارتباطاته الخارجيَّة والتركيز على الظهور الإعلامي والاحتفالات والفعاليَّات الخارجيَّة، على حساب التفاعل مع الواقع المؤسَّسي اليومي، أسهم في ترسيخ حالة من الترهُّل الإداري، حيثُ أهملت بعض المؤسَّسات ما يَدُور في «البيت الداخلي»، وابتعدت القيادة عن موقع التنفيذ، وسيطرت ثقافة «الباب المغلق» للموظفين، والمفتوح للمشاهير أو الشخصيَّات الخارجيَّة، إذ قد يكُونُ من الصعوبة أو المستحيل لقاء المسؤول وتحديدًا رئيس الوحدة بَيْنَما قد نستغرب من استقباله لمن هم من خارج المؤسَّسة والسلاسة والسرعة في الموافقات بشأن هذا اللقاء، ممَّا أدَّى إلى ضعف في احتواء الكوادر، وانعدام ثقافة الحوار، وظهور تأثير أفراد بعينهم على القرار المؤسَّسي. لذلك نتج عن ذلك تباينات في القرارات، وغياب الجديَّة في المتابعة والرقابة الداخليَّة، وظهور توجُّهات وممارسات غير صائبة، بل وظالمة في بعض الأحيان على شكل قرارات، إلى جانب ضعف في تحمُّل المسؤوليَّة لمن أوكلت لهم المسؤوليَّة، وافتقار بعضهم لفلسفة العمل السليمة. ومن هذا المنطلق نرى من الأهميَّة أن يوجِّه الجهاز بوصلة رقابته على القضايا الإداريَّة والقرارات كما يوجِّهها للقضايا الماليَّة للقناعة بعلاقة هذه التجاوزات بالترهل الإداري وغياب الابتكاريَّة والمتابعة الداخليَّة، مع التركيز على قياس الأثر الناتج عنها، وربط ذلك بمستوى إنتاجيَّة المؤسَّسة، وأثر مسار التكامل والتفاعل والترابط بَيْنَ المستويات التنظيميَّة داخل الوحدة.

يبقى التساؤل الآخر الَّذي يبحث عن إجابة معمَّقة قادرة على بناء صورة ذهنيَّة إيجابيَّة تَضْمن للمواطن كفاءة الإجراءات الرقابيَّة وفاعليَّتها واستدامتها في صناعة الأثر وإحداث التحوُّل، وضمان بقاء الممكنات والأدوات مستوعبة للمعطيات متجاوبة مع المتغيرات قادرة على حسم مسار هذه الأفكار لتقف على التساؤل: مَن يتابع تنفيذ ما أشار إليه جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة في تقريره السنوي؟ ما يعني الحاجة إلى إضافة بند في التقرير يتناول ما تم إنجازه أو اتخاذه من إجراءات عمليَّة في التعامل مع التجاوزات والمخالفات السابقة الَّتي رصدها الجهاز على مؤسَّسات الدولة المشمولة برقابته؛ نظرًا لغياب هذا البند من تقرير الجهاز الحالي أو أن يتمَّ استدراكه في تقرير آخر لِمَا بعد إصدار التقرير الحالي. وكان من الأولويَّة بمكان أن يذكر ملخَّص المُجتمع ما تمَّ اتخاذه من إجراءات وتطبيقه من أدوات واستراتيجيَّات في تقرير النسخة الخامسة عن ما ذكر في تقرير النسخة الرابعة، حتَّى يبقى المُجتمع مستوعبًا لكُلِّ المعطيات، متجاوبًا مع ما يرصده الجهاز من ملاحظات. إنَّ سدَّ هذه الحلقة المفقودة سوف يرفع من سقف مساهمة المواطن في دعم جهود جهاز الرقابة، وما سطَّره من شواهد إثبات على جهوده الساعية لتعزيز الإصلاح والرقابة والنزاهة ومكافحة الفساد، وأنَّ تقرير الجهاز يمثِّل بحقٍّ ثورة في وجْه الفساد والتجاوزات. إنَّ وضوح المسار في العمل القبلي والبعدي وما بَيْنَ هاتين الفترتين سوف يقلل من الهواجس والأفكار غير المرغوبة، ويجيب عن التساؤل الَّذي يطرحه المواطن حَوْلَ مصير التعامل مع هذه التجاوزات بعد رصد الجهاز لها؟ وكيف استطاع التعامل معها؟ وما النتائج المتحققة؟ وكيف تعاملت المؤسَّسات مع رصد الجهاز وإجراءاته ومدى التجاوب السَّلس في عمليَّة التنفيذ؟ ومع قناعاتنا بأنَّ الجهاز يدرك أهميَّة هذا البُعد فإنَّ التوقعات بأن تشهد النسخ القادمة وجود هذا البند في التقرير بشأن ما تم اتخاذه من إجراءات حَوْلَ التجاوزات رصدها الجهاز في التقرير السابق، والَّتي تعكس جهد الجهاز في تعامله مع تجاوزات المؤسَّسات أو كذلك فيما يتعلق بالجزاءات المقررة والعقوبات وإلى أين وصلت الأحكام التنفيذيَّة فيها، محطَّات مهمَّة ونقاطًا جوهريَّة حتمًا ليست غائبة عن جهاز الرقابة ستكُونُ حاضرة في تقريره القادم بما يُعزِّز من مصداقيَّة هذه التقارير وجودتها وكفاءتها وقدرتها على رسم ملامح التحوُّل القادمة في مسيرة العمل الرقابي.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]