التمثيل السياسي للمرأة عَبْرَ تعاقب الحضارات لم يكُنْ ترفًا ومظهرًا شكليًّا فحسب، بل كان ولا يزال دعامة أساسيَّة لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة والمساواة في صناعة القرار وبناء الأوطان، وأحد أبرز مُمكِّنات ضمان أن تكُونَ التشريعات والقوانين والسياسات الوطنيَّة تأخذ في الحسبان متطلبات نصف المُجتمع، وما إن غابت المرأة عن المشاركة وهُمّشت فانزوت عن المنظومة التشريعيَّة تكُونُ تلك القوانين تحت عدسة الخطر فتصبح بعيدة عن وجهات نظرهنَّ ومصالحهنَّ المتكاملة في بناء الوطن في كثير من الأحيان.
وأمام هذه النافذة الكبيرة للقيمة السياسيَّة عالميًّا تجاه المرأة، وبتضييق الدائرة في بلادنا العزيزة الَّتي ما فتئت منذ انطلاق نهضتها في عهد السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ، واستمرارًا لهذا النهج النبيل لمجدِّد نهضتنا الخالدة جلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ـ بتمكين المرأة في قِطاعات الدولة ومنها المؤسَّسة التشريعيَّة (مجلس عُمان) بغرفتيه (الدولة والشورى) كأحد أبرز المقاييس الَّتي تُظهر التزام الدولة بالمساواة السياسيَّة، والفلسفة الوجوديَّة لها كشريك فاعل ومسؤول وصاحبة حق إلى جانب الرجُل؛ ليتجلَّى ذلك الاهتمام في أبهى صوَره عَبْرَ تخصيص يوم السابع عشر من أكتوبر يومًا مشهودًا للمرأة العُمانيَّة كعلامة وطنيَّة فارقة ضمن الأيَّام المَجيدة لهذا الوطن العزيز.
وأمام كُلِّ ذلك الزخم المعنوي وتدافع الدولة بقيادتها السياسيَّة ومؤسَّساتها الرسميَّة وصحفها وإعلامها الناطق والمرئي ومؤسَّسات المُجتمع المَدني والفِرق الأهليَّة الَّتي لطالما كانت ولا تزال تُبرهن على القيمة الوجوديَّة والبنائيَّة للمرأة في ميادين التميُّز والمسؤوليَّة والبناء، إلَّا أنَّ مؤشرات التمثيل التشريعي يوحي بوجود فجوة حقيقيَّة بَيْنَ الواقع والمأمول؛ واستقراء للمؤشرات الرسميَّة الصادرة عن وزارة الداخليَّة نجد أنَّ نسبة تمثيل المرأة العُمانيَّة في مجلس الشورى (المُنتخب) في الفترة التاسعة (2019- 2023) لم تتجاوز (2.3%) وبمجموع مقعدين فقط من أصل (86) مقعدًا، بَيْنَما انخفض ذلك التمثيل إلى (0%) في الفترة العاشرة (2023- 2027)!؛ وهو مؤشر واضح على ضعف المكاسب السياسيَّة النسائيَّة في الساحة التشريعيَّة الفعليَّة، وفي مجلس الدولة (المُعيَّن) نلحظ أنَّ نسبة تمثيل المرأة فيه لا تتجاوز (20.9%) بمجموع (18) مقعدًا من أصل (86) وهي مساحة أكبر مقارنة بالشورى.
وبقراءة فاحصة لهذا التمثيل الهزيل للمرأة العُمانيَّة في المؤسَّسة التشريعيَّة يُمكِننا أن نستظهر هذا الواقع من خلال جُملة من الأسباب الآتية:
1. الهيكل السياسي والانتخابي للدولة: فعُمان كباقي دول مجلس التعاون الخليجي لا تتضمن أحزابًا سياسيَّة متباينة تساعد في تنافسيَّة الكتل الحزبيَّة، فكُلُّ المترشحات يقدِّمن أنفسهنَّ للجمهور كفرد مستقل؛ مما يجعلهنَّ في وضع صعب ومنافسة غير عادلة مع الأسرة والعشيرة والنزعة الذكوريَّة في المُجتمع، علاوةً على فقرهنَّ للبنية الأساسيَّة الانتخابيَّة الَّتي يُمكِن أن تساعدهنَّ في أن يُثبتن بأنَّهنَّ رقم قوي، كما أنَّ الصلاحيَّات المقيَّدة لمجلس الشورى في نظر المُجتمع والوسط الثقافي وأدواته شِبه المُعطَّلة لا يحبذها كثير من النساء نَحْوَ التقدم، فيخلق في أنفسهنَّ نوعًا من عدم القناعة بأدواته وصلاحيَّته بناء على كثير من المعطيات والوقائع منذ نشأته حتَّى الساعة، أضف إلى ذلك شعورهنَّ بأنَّ وجودهنَّ قد يخلق إحساسًا بالانتقاص انطلاقًا من معادلة وجودهنَّ هو رمزي أكثر من كونه قياديًّا ومشاركة في صناعة القرار.
2. النمطيَّة الثقافيَّة والمُجتمعيَّة: حيثُ لا تزال فلسفة الالتزامات المنزليَّة والأسريَّة في مُجتمعنا هي السائدة، ويُعزِّز ذلك قناعة المرأة نفسها بذلك؛ وكنتيجة حتميَّة فإنَّ ذلك يضعف من وقتها وقدرتها في حملتها الانتخابيَّة والعمل البرلماني المضني إن حصلت على مقعد في المؤسَّسة التشريعيَّة، كما لا يُمكِننا أن نغفل العلاقات العشائريَّة والأسريَّة الَّتي ترفع كثيرًا من الأسماء الذكوريَّة بعيدًا عن أهميَّة وقيمة المؤهلات العلميَّة والمساهمات المُجتمعيَّة الَّتي تقدِّمها المرأة ليس في المُجتمعات الريفيَّة كما كان سائدًا، بل حتَّى في الحواضر والمُدن الكبيرة؛ مما يعطي أفضليَّة مُطْلقة لمن يتمتع برصيد كبير من العلاقات الاجتماعيَّة والوجاهة والدعم الأُسري، ونظرة المُجتمع إلى أنَّ المرأة قد لا تصمد في وجْه التيَّارات السياسيَّة والمتغيرات الاجتماعيَّة الحسَّاسة في وقت تسعى الحكومة إلى تغيير هذه الثقافة من خلال تعزيز حضورهنَّ في المناصب القياديَّة والمحافل الدوليَّة.
3. الدعم الانتخابي والخبرة السياسيَّة: إذ يُمثِّل ضعف الدعم اللوجستي الدعائي (الإعلانات، والمطويَّات، والنقل، ...إلخ) للمترشحات من قِبل مؤسَّسات المُجتمع المَدني والقِطاع الخاص والأشخاص الاعتباريين أحد أبرز التحدِّيات الَّتي تضعف من وجودهنَّ في المؤسَّسة التشريعيَّة، فعدم قدرتهنَّ على ضخ الأموال لهذه المتطلبات يدفعهنَّ للانزواء وعدم المجازفة خشية الالتزامات الماليَّة الجسيمة الَّتي قد تدخلهنَّ في مستنقع الديون على عكس كثير من رجال الأعمال الَّذين يستثمرون أموالهم وعلاقاتهم مع التّجار وشركات القِطاع الخاص والشخصيَّات الاعتباريَّة من أجلِ تدعيم مواقفهم والحصول على فرصة الفوز بمقعد، كما أنَّ ضعف مشاركة المرأة في النماذج الانتخابيَّة والحملات الدعائيَّة يُعزِّز من ضعف المصداقيَّة بَيْنَها وبَيْنَ المُخاطبين من الجمهور، وهنا تبرز أهميَّة وقيمة الخبرة والحنكة والثقافة السياسيَّة والبرلمانيَّة، أضف إلى ذلك غياب الدَّوْر الكبير والمؤمل عليه من مؤسَّسات المُجتمع المَدني والمنظَّمات النسائيَّة، وعلى رأسها جمعيَّة المرأة العُمانيَّة في تعزيز حضورهنَّ من خلال مختلف صنوف الدعاية والتسويق والتثقيف والدَّوْرات المتخصصة لِيكُونَ للمرأة حضورًا لافتًا وحقيقيًّا وليس رمزيًّا فحسب.
4. نظام الكوتا: هناك حديث كبير وعميق في الوسط الثقافي والسياسي العُماني حَوْلَ إمكانيَّة تطبيق (الكوتا) من عدمها، فهو بحسب مؤيديه يحفظ التوازن الانتخابي للمؤسَّسة التشريعيَّة من خلال تخصيص نسبة ثابتة لهنَّ إلى جانب التنافسيَّة بالمقاعد الأخرى، بَيْنَما يرى معارضيه أنَّه انتقاص من حُريَّة الانتخاب والتصويت والشورى الَّتي أرسى دعائمها النظام الأساسي للدولة، وبَيْنَ مؤيِّد ومعارض نجد أنَّ القيادة السياسيَّة عملت على حفظ حقِّ الوجود النسائي في الجناح الآخر للمؤسَّسة التشريعيَّة والمتمثل في مجلس الدولة وإن كان بنسبة منخفضة لكنَّها متوازنة مع المرحلة الحاليَّة.
5. التمثيل الحقيقي للمرأة داخل المجلس: فمجلس عُمان بشقَّيه الدولة والشورى يتضمن عددًا من اللجان الرئيسة والفرعيَّة، ومن التحدِّيات الَّتي تواجها المرأة في ظل القطبيَّة الذكوريَّة المطلقة صعوبة الفوز برئاسة بعض تلك اللجان والتأثير في بنود وجدول أعمالها، ويسهم الضعف العددي للنساء مقارنةً بالكتلة الذكوريَّة في كثير من المواقف إلى تهميش صوتهنَّ في مقترحات مشروعات القوانين والدراسات الوطنيَّة العامَّة والخاصَّة بهنَّ.
إنَّ بقاء الأسباب الآنفة الذِّكر، وضعف التمثيل النسائي في المؤسَّسة التشريعيَّة يخلق عواقب محتملة غير محبذة على المستويين السياسي والاجتماعي، يتقدمها القصور في واقع ومتطلبات القضايا النسائيَّة تحت قبَّة المؤسَّسة التشريعيَّة، وزيادة الفجوة لانزوائهنَّ عن المشاركة السياسيَّة ممَّا يُعزِّز الحالة الإقصائيَّة لهنَّ، وخلق بيئة غير متوازنة ترى أنَّ نصف المُجتمع لا يحصل على العدالة التمثيليَّة في صناعة القرارات الوطنيَّة، وتعزيز نمطيَّة التمثيل الأحادي للمؤسَّسة التشريعيَّة في ظل غياب تمثيل نسائي كبير يضعف من فاعليَّة كثير من التشريعات الَّتي تلامس احتياجاتهنَّ ومتطلباتهنَّ الوطنيَّة، وخطورة فقدان همزة الوصل بَيْنَ المشاريع التنمويَّة المستدامة الَّتي تسهم فيها المرأة العُمانيَّة في مختلف القِطاعات في ظل غياب حضورهنَّ للمناقشة والبتِّ في كثير من التشريعات.
ختامًا، نحن بحاجة إلى إعادة هندسة الوعي الانتخابي حتَّى تكُونَ لدَيْنا مؤسَّسة تشريعيَّة ناضجة تتقارب مع فلسفة الدولة وقيادتها السياسيَّة والمؤسَّساتيَّة في تعزيز حضور المرأة كمُكوِّن رئيس وفاعل في المُجتمع والدولة، وتسهيل آليَّات وأدوات تحقيق طموحات الرؤية الوطنيَّة «عُمان 2040» بكُلِّ حرفيَّة ومسؤوليَّة؛ وذلك يتطلب تكامل الجهود المؤسَّسي والمُجتمعي على اختلاف أدواتها ووسائلها، كما نقدِّم باقة ورد مليئة بالحُب والجَمال والفخر والاعتزاز للمرأة العُمانيَّة الجليلة، وكُلُّ عام وأنتنَّ سواعد عظيمة تبني عُمان وتنبض بالحياة.
د. سلطان بن خميس الخروصي
كاتب عماني