السبت 25 أكتوبر 2025 م - 3 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

الوهم الضائع

الوهم الضائع
الأربعاء - 22 أكتوبر 2025 11:15 ص

د.أحمد مصطفى أحمد

20


في مثل الوضع الحالي عالميًّا، حيثُ عدم اليقين والاضطراب في السياسة والاقتصاد والتجارة الَّتي زادت من وتيرتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يبحث الجميع عن «ملاذ آمن» ووسيلة للتحوط في مواجهة تبعات المستقبل غير المضمونة. غالبًا ما تقوم الأُسر والأفراد بتسييل ما لدَيْها من أصول عقاريَّة ومثلها خشية انهيار قيمتها مع تدهور الأوضاع. وفي حالات الاضطراب والتدهور يكُونُ «النقد هو الملك»، أي يحتفظ الناس بما لدَيْهم من ثروات قليلة أو كثيرة، وكذلك المستثمرون والمتعاملون في الأسواق بثرواتهم أموالًا نقديَّة. لكن مع توقعات التضخم المتذبذبة والسياسات الماليَّة العالميَّة غير الآمنة يخشى من تدهور قيمة المدخرات النقديَّة. هنا يأتي البحث عن الملاذ الآمن، من قِبل الحكومات والمؤسَّسات والصناديق والمستثمرين مثلهم مثل الأُسر والأفراد. وتقليديًّا كان الدولار الأميركي ملاذًا آمنًا للثروة في أوقات التدهور الاقتصادي. إلَّا أنَّ إدارة الرئيس ترامب تعمل منذ بداية العام على خفض قيمة الدولار، وبالتالي تفقد العملة الأميركيَّة أهميَّتها كملاذ آمن للثروة. فبدأ الناس ينصرفون عن تحويل ما لدَيْهم إلى دولارات، بل إنَّ البنوك المركزيَّة تقلل نصيب الدولار في احتياطيَّاتها، وكذلك يتخلص المستثمرون من الأصول الدولاريَّة في محافظهم الاستثماريَّة.

قَبل بضع سنوات، ومع بداية فورة العملات المشفَّرة والارتفاع الهائل في سعر أشهرها (بيتكوين)، روَّج المتحمسون للمشفَّرات أنَّها ستصبح ذلك الملاذ الآمن للثروة للجميع: حكومات ومؤسَّسات وأفرادًا. كانت حجَّتهم، وما زالت، أنَّ العملات المشفَّرة لا تحكمها قواعد وقوانين البنوك المركزيَّة ولا السُّلطات الماليَّة للحكومات، وبالتالي فهي أصل «حُر بالمطلق»، وجاءت الارتفاعات الهائلة في قيمتها لتدعم حجتهم تلك. لكن الارتفاع يعقبه هبوط هائل أيضًا، فنال هذا التذبذب نتيجة المضاربات عليها من ثقة الناس في قيمتها كأصل، وزاد الشعور بأنَّها «ثروة وهميَّة» ليست سوى مجرَّد سطور برامج كمبيوتريَّة كبقيَّة الأصول الرقميَّة. ورغم تقنين بعض الدول، وفي مقدمتها أميركا للعملات المشفَّرة والأصول الرقميَّة وإدخالها في النظام الرسمي، إلَّا أنَّها ظلت مقصورة على تعاملات بعض المغامرين ولم تصل بعد إلى ما يقرب من تعامل الناس في أسْهُم الشركات الحقيقيَّة بالأسواق. كما أنَّ تطور المشفَّرات، ثم غليان فقاعة شركات التكنولوجيا خصوصًا شركات الذكاء الاصطناعي، زاد من حجم «الثروة الوهميَّة» في النظام العالمي والَّتي تقدر الآن بعشرات تريليونات الدولارات؛ أي تلك الأموال الَّتي لا تزيد عن مجرَّد أرقام ليس لها أيّ سند مادي حقيقي في الواقع.

ما حدَث في العامين الأخيرين، ومع تدهور مكانة الدولار كملاذ آمن للتحوط، بدأ الجميع يكنزون الذهب: من البنوك المركزيَّة إلى الأفراد مرورًا بالصناديق والمستثمرين. وأدَّت زيادة الطلب على المعدن الثمين إلى تضاعف أسعاره وما زال ارتفاعها مستمرًّا، هذا في الوقت الَّذي تتذبذب فيه أسعار المشفَّرات في نطاق ضيق ولا تشهد زيادة في الطلب. وهكذا تقريبًا ضاع وَهْم أن تصبح العملات المشفَّرة بديلًا للدولار والذهب كوسيلة تحوط تجاه التقلبات والاضطرابات. ويعني ذلك أنَّ أغلبيَّة البشر حَوْلَ العالم يعودون للأصول؛ أيّ إلى تخزين ثروتهم في أصول ماديَّة ذات قيمة حقيقيَّة وليس في أصول رقميَّة مهما كانت إغراءات الارتفاع الهائل في قيمتها بَيْنَ الحين والآخر. هناك عوامل كثيرة أسهمت في ضياع وَهْم حلول المشفَّرات محل الذهب مثلًا منها أنَّ العملة الأكبر، بيتكوين، مصممة رقميًّا لإصدار واحد وعشرين مليون عملة فقط يتداول منها الآن ما يقارب العشرين مليونًا، ولم يبقَ سوى مليون واحد يحتاج تكوينها إلى مصادر كمبيوتريَّة وطاقة هائلة جدًّا. في المقابل هناك نَحْوَ مئتين وخمسين ألف طن متري من الذهب المتداول في صورته الماديَّة المعدنيَّة الحقيقيَّة. بالإضافة إلى مثل تلك الكميَّة من المعدن الأصفر كاحتياطيَّات مثبتة لم تستخرج من الأرض. ويقدر أنَّ قاع المحيطات والبحار يحتوي على (20) مليون طن من الذهب، لكنَّها غير قابلة للتعدين حاليًّا بسبب الكلفة وعدم تطور تكنولوجيا التنقيب بقاع المحيط.

رُبَّما يتصور البعض أنَّ هذا الوهم الضائع بتحول الناس عن الأصول المشفَّرة والرقميَّة، وحتَّى عن الدولار الأميركي، إلى الذهب يُعَد تراجعًا في تطور البشريَّة. إنَّما الحقيقة أنَّ هذا أمر صحي تمامًا يخلص النظام العالمي من بعض هواء فقاعة ثروة في منتهى الخطورة. فالقيمة التقريبيَّة للعملات المشفَّرة المتداولة حَوْلَ العالم لا تصل إلى أربعة تريليونات دولار بَيْنَما قيمة الذهب المتداول حاليًّا تزيد عن خمسة عشر تريليون دولار. وذلك الرقم الأخير يساوي تقريبًا نصف الثروة الوهميَّة الناجمة عن المغالاة في قيمة الأصول بشكلٍ لا يعكس وضعها الحقيقي. وبالتَّالي فإنَّ العالم يؤمن نصف ما يُمكِن أن يتبخر في أيِّ لحظة نتيجة اضطراب السوق بأصلٍ حقيقي هو الذهب. صحيح أنَّ خزن الثروات في المعدن الأصفر يعني «خمول» تلك الأموال وانسحابها من الاستثمار في المشروعات والشركات، وبالتَّالي زيادة تباطؤ النشاط الاقتصادي. لكن تلك طبيعة الدَّوْرات الاقتصاديَّة من النمو إلى الانكماش ثم النمو وهكذا. فعلى الأقل يُمكِن إعادة تحويل الذهب إلى نقد عند الحاجة واستخدامه في الاستثمار ودفع النمو الاقتصادي، أمَّا الثروة الوهميَّة فإذا تبخرت لا تعود ولا حتَّى بالمضاربات كما في حالة المشفَّرات.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]