الجمعة 24 أكتوبر 2025 م - 1 جمادى الأولى 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : الرقابة الذاتية وتعظيم القدوات والنماذج الوطنية ركيزة لحماية المال العام وتعزيز النزاهة.. قراءة فـي تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة لعام 2024

في العمق : الرقابة الذاتية وتعظيم القدوات والنماذج الوطنية ركيزة لحماية المال العام وتعزيز النزاهة.. قراءة فـي تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة لعام 2024
الثلاثاء - 21 أكتوبر 2025 11:09 ص

د.رجب بن علي العويسي

350


كشف جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة في تقريره السنوي ـ ملخَّص الرقابة للمُجتمع، وفي نسخته الخامسة لعام 2024 ـ العديد من الممارسات غير المنضبطة والمخالفات والتجاوزات الماليَّة والإداريَّة في بعض وحدات الجهاز الإداري للدولة والشركات المشمولة برقابة الجهاز. فقد أشار التقرير إلى أن القِيمة المضافة الناتجة من الأعمال الرقابيَّة للجهاز تمثلت في استرداد (58) مليون ريال عُماني منها (25) مليون ريال عُماني مبالغ مستحقة حصلت أو استردت في عام 2024 و(33) مليون ريال عُماني مبالغ مستحقة أو حصلت بعد صدور التقرير السنوي لعام 2023، كما أبرز تقرير الجهاز جملة من قضايا الأموال العامَّة الَّتي تعامل معها جهاز الرقابة في عام 2024 وبلغ عددها (72) من قضايا الأموال العامَّة ومحاضر التحري في المخالفات الماليَّة والإداريَّة الَّتي شكلت شبهة أو جريمة جنائيَّة موزَّعة على بالترتيب على : القضايا محل النظر القضائي بواقع (25) قضيَّة، والقضايا المبلغة من قِبل الجهاز بواقع (9) قضايا، والقضايا المبلغة من قِبل الجهات المشمولة برقابة الجهاز بواقع (10) قضايا، بالإضافة إلى أوامر الندب الصادرة من الادعاء العام إلى الجهاز بواقع (6) أوامر، ومحاضر التحري لدى الجهاز الَّتي بلغت (47) محضرًا، كما شمل تصنيف القضايا العامَّة الَّتي تعامل معها الجهاز قضايا: استغلال المنصب لتحقيق منفعة، وقَبول الرشوة للقيام بأعمال منافية لواجبات الوظيفة، والتزوير المعلوماتي، والتزوير في المحررات الرسميَّة، واختلاس المال العام، والإخلال في أداء الواجبات الوظيفيَّة، وأخيرًا التعدي على المال العام.

وانطلاقًا من أهميَّة الرقابة الذَّاتيَّة في بناء حسِّ المسؤوليَّة والتزام قِيَم النزاهة، يأتي تأكيدنا على أهميَّة الرقابة الوقائيَّة الذَّاتيَّة كأحد مداخل الإصلاح الذَّاتي والطريق لتقوية الممكنات الرقابيَّة النابعة من ذات الفرد المواطن والموظف وقناعاته الَّتي تنعكس على التزامه بالقوانين، وتعظيمه لموارد الوطن ومحافظته على المال العام. فالالتزام الفطري والشعور الداخلي بالرقابة والإحساس بالمسؤوليَّة وخوف العقاب أو الصورة الَّتي سيقدمها هذا السلوك عن الموظف أو المواطن للمُجتمع ولأُسرته وأهله عندما يقع في أيدي العدالة وتضبطه أدوات النزاهة والرقابة سوف يصنع منه إنسانا آخر يحترم ذاته ويقدِّر مُجتمعه، ويعظِّم شعائره وقوانينه فيبني منه مواطنًا مسؤولًا مخلصًا واعيًا، وموظفًا منتجًا، ومُجتمعًا وظيفيًّا واعيًا، وعندها يتحول إصلاح الذَّات من كونه شأنًا شخصيًّا في المقام الأول، إلى كونه عقيدة إنسان وثقافة أُمَّة ومسؤوليَّة مُجتمع؛ إذ الجميع يستشعر الخطر الناتج عن عدم تحقيق الرقابة، أو وجود اختلالات في سلوك النزاهة والصدق والأمانة، وعندها تنمو مدركات الشعور الجمعي، وتتبوأ مكانتها في المُجتمع، وتبرز في منظومة العمل وجوهر التفاعلات ومنطوق الخطاب قِيمة التواصي بالحقِّ، والتذكير بالمبادئ والقِيَم، وتجسيد الأخلاق في السلوك والمواقف.

إنَّ الرقابة الذَّاتيَّة بذلك قوَّة داخليَّة تتشكل في ذات المواطن في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة، وتضبط ممارساته ويستشعر خلالها مسؤوليَّاته وواجباته، فينتقل خلالها إلى مرحلة الاستشعار والهاجس النفسي الَّذي يوقظ ضميره ويرفع من سقف اعترافه بتقصير الذَّات، وفترة استراحة لالتقاط الأنفاس والوقوف على الواقع بروح ملؤها التفاؤل والإيجابيَّة، والصدق والموضوعيَّة، والثبات والالتزام، والوعي والفهم، وحسّ المسؤوليَّة وحُسن التصرف، مرحلة لتجديد الآمال، وإعادة هندسة الذَّات، وتصحيح الممارسات، واستشعار الموقف.. إنَّها انتصار للآخر، في مواجهة أنانيَّة النفس وفردانيَّة السلوك، وسلطويَّة القرار. لذلك عندما تبني في صحائف النفس وصفحاتها البيضاء معاني الرقابة، وتتجذر قِيمة الرادع الذَّاتي والوازع الفطري، وتتأصل أخلاقيَّات الإنسان وقِيَمه، عندها تتجه الأمور إلى الصلاح والإصلاح، فتقل التجاوزات الناتجة عن هزيمة النفس وخلل الممارسة، ونزغة الذَّات، وغلبة الأنا، ووقتيَّة الالتزام بالقانون، وتبني في النفس حواجز الصَّد، وموانع داخليَّة قويَّة تَحُول دُونَ تجاوز الحدود. إنَّ الكثير من التجاوزات الَّتي تناولها تقرير جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة تشير إلى أنَّ الخلل ليس دائمًا في ضبطيَّة القوانين، بل في غياب الرقابة الذَّاتيَّة والضمير المهني، وأنَّ الفساد الإداري والمالي لا ينشأ فجأة، بل هو نتاج تراكمات من الاستهانة بالقِيَم، والتساهل في الأمانة، وتغليب المصلحة الشخصيَّة على المصلحة العامَّة.

وهنا يأتي دَوْر «الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النزاهة 2022ـ 2030» والَّتي أطلقها جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة لِتكُونَ بمثابة أداة مرجعيَّة متكاملة للعمل الوطني المؤسَّسي في حماية المال العام، وتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، واستدامة التزامه بمبادئ النزاهة، وما حملته من موجّهات بناء الرقابة الذَّاتيَّة وصناعة النماذج والقدوات الوطنيَّة الحافظة لموارد الوطن وثرواته وحماية المال العام عَبْرَ إدماجها في مُجتمع التعليم ومؤسَّسات التنشئة والإعلام والتربيَّة والأسرة ومعامل الإنتاج والاقتصاد ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي، كإطار عمل يعزز من منظومة الرقابة الذَّاتيَّة، ويؤصِّل لمعايير السلوك الوظيفي القائم على الشفافيَّة والمساءلة، أداة منهجيَّة وبوصلة تُمكِّن الجهات الحكوميَّة والشركات المشمولة برقابة الجهاز من بناء بيئة عمل مؤسَّسيَّة تعتمد على الحوكمة الرشيدة في حماية المال العام، وتعزيز الرقابة الذَّاتيَّة والوقائيَّة، بحيثُ تصبح كُلُّ جهة مسؤولة داخليًّا عن تصحيح مسارها وضبط ممارساتها قبل أن تُكتشف المخالفات من قِبل الجهاز.

على أنّ ما أظهره تقرير جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة من أنماط مختلفة من التجاوزات والمخالفات، وتنوع الشكاوى والبلاغات الَّتي رصدها الجهاز على شكل: تجاوزات إداريَّة وماليَّة، وتعطيل مصالح المواطنين، وتظلمات الموظفين، وعدم سلامة إسناد المناقصات، وسوء استغلال السُّلطة، بزيادة بلغت (1378 شكوى وبلاغًا) في عام 2024 بفارق بلغ (427) عن عام 2023 (951) شكوى، مؤشرات تدلُّ على أنَّ الرقابة الذَّاتيَّة داخل هذه الوحدات لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب من الكفاءة والفاعليَّة، وأنَّ الحاجة ملحَّة لتبنِّي مقاربات وقائيَّة داخليَّة، تنطلق من بيئة المؤسَّسات نفسها وتتماهى في قناعات وثقافة وسلوكيَّات المُجتمع الوظيفي، وهو ما يستدعي توجيه برامج الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النزاهة وبناء أدواتها، بحيثُ تتحول إلى ممارسات مؤسَّسيَّة مُلزمة، مدعومة بتشريعات ولوائح تنفيذيَّة، وتحويل الخطَّة إلى برنامج عمل تنفيذي في كُلِّ جهة حكوميَّة، يتضمن معايير واضحة لتقييم الأداء في ما يتعلق بالنزاهة والشفافيَّة، مع ربط نتائج هذا التقييم بمؤشرات قياس الأداء الفردي والمؤسَّسي. لتصبح النزاهة قناعة شخصيَّة وثقافة مؤسَّسيَّة قائمة على المسؤوليَّة الذَّاتيَّة والانضباط الذَّاتي، وهنا يكُونُ دَوْر الخطَّة الوطنيَّة محوريًّا في الانتقال من الرقابة اللاحقة إلى الالتزام الذَّاتي والوقاية من الفساد قَبل وقوعه.

وإنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي ينبغي استحضارها في إطار بناء وعي رقابي جمعي نابع من الذَّات، ويتقاسم المُجتمع الوظيفي المسؤوليَّة نَحْوَه، يكمن في الإكثار من القدوات والنماذج الوطنيَّة وتعريض قيادات المؤسَّسات والمُجتمع الوظيفي في الوظائف الماليَّة والإداريَّة الحساسة لمواقف عمليَّة وتجارب وبيئات محاكاة لواقع النزاهة، بهدف صقل مهاراتهم واعدادهم للتكيف مع متطلبات الواقع المتغير، وقياس حجم المؤثرات والمثيرات الَّتي تسيطر على العقل اللاواعي في حياة الموظف وتسلبه إرادة الالتزام وحماية المال العام، وإبراز النماذج الناجحة بحيثُ يُسلَّط الضوء عليها كقدوات يُحتذى بها، مما يسهم في تحفيز باقي الجهات على تحسين ممارساتها وتعزيز الرقابة الذَّاتيَّة فيها. فإنَّ الأرقام الَّتي عرضها تقرير جهاز الرقابة لعام 2024 تُمثِّل ناقوسًا يُنذر بالحاجة إلى بناء ثقافة رقابة ذاتيَّة في المُجتمع، فالجاهزيَّة الرقابيَّة لا تتحقق بالردع القانوني، بل بتعزيز بالردع الذَّاتي والأخلاقي، بحيثُ يتحول كُلُّ فرد إلى رقيب على ذاته، حارس على أمانته، شريك في الرقابة والمسؤوليَّة، ودرع حصين يحمي مقدرات الوطن من كُلِّ عبث أو تجاوز؛ للقناعة بأنَّه كُلَّما قويت حياة الضمير، قلَّت الحاجة إلى العقوبة، وكُلَّما حضر الإيمان والإخلاص لدى الفرد تجاه وطنه ومُجتمعه، غابت الصورة المشوّهة لمنجزات الوطن.

أخيرًا، فإنَّ جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة وهو يقدِّم تقريره لعام 2024م في ظل ما أفصحت عنه عمليَّات الفحص والتدقيق من قضايا أحيى فينا ضمير المسؤوليَّة وقِيَم النزاهة، وأصَّل روح الرقابة في حياة المُجتمع، وقد وضع الأفراد والمؤسَّسات أمام مسؤوليَّة تحمُّل هذه التجاوزات وإعادة هندسة الذَّات وبناء الروح الرقابيَّة الذَّاتيَّة وتأصيل الرقابة الوقائيَّة حفاظًا على موارد الوطن وحقوق المواطن من أن تمتدَّ إليه يد العبث والاختلاس؛ ليؤكدَ في الوقت نفسه على أنَّه ماضٍ بعون الله وإرادة القائمين على الجهاز رئاسة وقيادة وموظفين في تنفيذ واجباته الوطنيَّة في الرقابة والنزاهة والمحاسبة والمساءلة والشفافيَّة استلهامًا للنهج السَّامي الَّذي رسمَه حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]