تُشكِّل زيارة «دولة» الَّتي يقوم بها فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان رئيس جمهوريَّة تركيا إلى سلطنة عُمان اليوم الأربعاء، بدعوةٍ كريمة من حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ محطَّة جديدة في مسار العلاقات الثنائيَّة بَيْنَ البلدين، وتجسيدًا للعلاقات المتميزة الَّتي تربط السَّلطنة بجمهوريَّة تركيا الصديقة، حيثُ تأتي الزيارة استكمالًا للزخم الَّذي شهدته العلاقات بعد الزيارة الرسميَّة الَّتي قام بها جلالة السُّلطان المُعظَّم إلى أنقرة في يوليو 2023، وما تبعها من توقيع اتفاقيَّات تعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة والتعليم والثقافة، من أبرزها مذكّرة التفاهم في مجال الطاقة المُتجدِّدة بَيْنَ وزارة الطاقة والمعادن ووزارة الطاقة والموارد الطبيعيَّة التركيَّة، ومذكّرة تفاهم في مجال التعليم العالي والبحث العلمي. ويعكس التواصل المستمر بَيْنَ القيادتين عُمق الثقة المتبادلة والتقارب في الرؤى تجاه القضايا الإقليميَّة والدوليَّة، ويؤكد حرص الجانبَيْنِ على تعزيز الحوار كخيار استراتيجي لتحقيق الاستقرار والتنمية، كما تبرز الزيارة استمرار النهج العُماني في بناء علاقات تقوم على التوازن والانفتاح بما يخدم مصالح الشعوب ويُعزِّز الأمن الإقليمي.
وانطلاقًا من هذا الزخم السياسي الَّذي يعكس عُمق العلاقات بَيْنَ مسقط وأنقرة، تأتي الجوانب الاقتصاديَّة في مقدِّمة الملفَّات المطروحة خلال الزيارة؛ باعتبارها ركيزة أساسيَّة لتوسيع آفاق التعاون المشترك. فقد أرست الزيارة الَّتي قام بها جلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى جمهوريَّة تركيا العام الماضي أساسًا متينًا لتطوير الشراكة الاقتصاديَّة من خلال التفاهمات الَّتي شملت قِطاعات الطاقة المُتجدِّدة والصناعة والأمن الغذائي والخدمات اللوجستيَّة والتعليم العالي. وتُشكِّل زيارة فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان المرحلة التنفيذيَّة لهذه التفاهمات، إذ تفتح الباب أمام تحويل الاتفاقيَّات إلى مشروعات واقعيَّة تُسهم في رفع حجم التبادل التجاري، الَّذي بلغ في عام 2024 نَحْوَ مليار وثلاثمئة مليون دولار أميركي، مع توجُّه لزيادته بنسبة (25%) خلال العامين القادمين، ويتكامل هذا التوجُّه مع أهداف رؤية «عُمان 2040» الَّتي تضع التنويع الاقتصادي في مقدِّمة أولويَّاتها، ومع التوجُّهات التركيَّة لتعزيز حضورها في الأسواق الخليجيَّة والآسيويَّة، بما يُعزِّز قيام شراكة استراتيجيَّة تُحقق مصالح البلدين والشَّعبَيْنِ الصَّديقَيْنِ.
وفي قراءةٍ أعمقَ لمسار التقارب بَيْنَ البلدين، يتضح أنَّ قوَّة العلاقة تتشكَّل من طبقتين متكاملتين، طبقة حضاريَّة تمتدُّ من الإرث التاريخي المشترك وروابط الثقافة والهُوِيَّة، وطبقة استراتيجيَّة تقوم على تصميم سياسات واقعيَّة تترجم هذا الإرث إلى مصالح معاصرة قابلة للقياس. فالتعليم العالي والتبادل الأكاديمي يقدِّمان منصَّة لصناعة رأس مال معرفي مشترك، فيما تفتح الصناعات الإبداعيَّة والسياحة الثقافيَّة مجالًا لبناء صورة إيجابيَّة مستدامة تُعزِّز القَبول الشَّعبي لأيِّ شراكات اقتصاديَّة، ويمنح هذا البُعد الناعم المشاريع الاستثماريَّة المقبلة عنصرًا مضافًا من الثقة، ويُقلِّل كلفة المخاطر المرتبطة باختلاف الأنظمة والسياقات التنظيميَّة. وفي الجانب الاستراتيجي تتقدم ملفَّات الطاقة المُتجدِّدة والخدمات اللوجستيَّة والصناعات التحويليَّة بوصفها روافع عمليَّة لصياغة سلسلة قيِّمة تربط الموانئ العُمانيَّة بالممرَّات التركيَّة نَحْوَ آسيا وأوروبا، وهو ما يرسِّخ الشراكة على قاعدة تنويع الموارد وتوسيع الأسواق، ويُعزِّز مكانة سلطنة عُمان شريكًا موثوقًا يتقن الجمع بَيْنَ الدبلوماسيَّة الهادئة وفاعليَّة التنفيذ الاقتصادي.
إنَّ الزيارة تُمثِّل امتدادًا لنهج السَّلطنة النَّابع من الفكر السَّامي لعاهل البلاد المُفدَّى، والَّذي يعمل على بناء شبكة علاقات متوازنة تقوم على المصالح المشتركة وتخدم استقرار المنطقة بأكملها. فالتقارب العُماني ـ التركي لا يقتصر على تبادل المنافع، وإنَّما يعكس وعيًا متقدمًا بِدَوْر الدبلوماسيَّة الهادئة في مواجهة التَّحوُّلات الدوليَّة المتسارعة.. ومع تصاعُد التحدِّيات الاقتصاديَّة والجيوسياسيَّة، تبرز أهميَّة هذه الشراكات القائمة على الثقة والاحترام المتبادل في صياغة توازنات جديدة أكثر عدلًا واستقرارًا. وبهذه الخطوات المتدرجة ترسِّخ السلطنة حضورها كركيزة سلام وتنمية في محيطها، فيما تفتح الزيارة آفاقًا أرحبَ لتعاونٍ إقليمي يُترجِم مبادئ السياسة العُمانيَّة القائمة على الحوار، ويؤكد أنَّ بناء الجسور بَيْنَ الشعوب هو الاستثمار الأعمق في مستقبلٍ آمِنٍ ومزدهرٍ للجميع.